وداعا أيتها السماء لحامد عبد الصمد... عندما تحتجز الذات في زنزانة الطفولة الكارثية
(وداعا أيتها السماء) الرواية الأولى لحامد عبد الصمد. ربما لأن الاسم جديد علي، أو لأن الرواية تنحو المنحى الأوتو بيوجرافي الذي يميز بواكير الكتابات الجديدة. والأوتو بيوجرافي (عندما يأتي في مستهل تجربة الكتابة) سلاح ذو حدين: إما أنه يعبر عن التجربة القريبة والمتاحة بسهولة، فيفتقر إلى التحليق واقتحام عوالم جديدة منتهيا بالدوران اللانهائي حول الذات. أو يقوم الكاتب متسلحا بالحياد والنضج العقلي بعملية الغربلة منتقيا لقرائه ما هو مختلف وخلافي في نفس الوقت. أعتقد أن هذه الرواية تقف بين هذين الحدين.
الذات هي بطل الرواية :
أنا لن أتعامل مع شخصية البطل في هذه الرواية على أنها تُقدّم جدلية فكرية جديرة بالنقاش أو داعية لإعادة النظر في مسائل الدين أو العقيدة، أو حتى إعادة البحث عن أجوبة لأسئلة عويصة، وإنما سأتعامل معها باعتبارها شخصية مضطربة نفسيا ومأزومة للغاية وعلى المستوى العلمي هي أقرب للشخصية الحدّية كما سأشرح لاحقا. إن ذات "شاكر" قد احتجزت في مرحلة سيئة من مراحل طفولته التي تأزّمت بفعل حادثتيْ اغتصاب ، قسوة الأب غير المبررة، سخرية الرفاق في المدرسة من لونه الأبيض وعينيه الملونتين وبالتالي خلع صفة "المرجلة" عنه، محاولة منه لاغتصاب أحد الأطفال الذي كان نائما إلى جواره ذات مرة؛ لكن القدر ألحق بها الفشل والحمد لله. بعبارة أخرى لقد علق وعيه في مرحلة بدائية ولم يفلح في النضج أو التطور لأن الذات فشلت في حل أزماتها والإجابة عن ما يؤرقها من أسئلة. هذه هي أزمات الطفولة الأوضح (وخاصة الانتهاك الجنسي) عند شاكر والتي ستبنى عليها الدينامية النفسية لشخصيته.
أول ملامح الدينامية النفسية هي الانشقاق Splitting حيث يقوم بتقسيم كل من حوله إلى من يحبونه ومن يكرهونه بما فيهم الله ذاته الذي قرر منذ البداية أنه لم يكن في صفه أبدا. فلنقرأ في الرواية ص 105:
ولأنني كنت قد مللت صمت إله السماء فقد جعلت من أبي إلها في الأرض.. ولأنني كنت أخشى أن يكون أبانا الذي في السماء مثل أبينا الذي على الأرض، فقد أضفيت على أبي صفات رب الخلائق.. وفي نهاية المطاف فإن كلاهما كان غاضبا منتقما ولا تؤمن جوانبه! أو يقسم الناس جميعا إلى طيبين وأشرار (الدنيا كلها يا أبيض يا أسود!) طبقا لمشاعره الذاتية غير الحيادية بالطبع وأفكاره الخاصة، وهي في ذات الوقت مشاعر متغيرة متقلبة وقد اتضحت بشدة في علاقته بأنطونيا المسكينة. أنطونيا التي رآها في مطار القاهرة جميلة، ومثقفة، ولديها لمحة أسطورية ما تتحوّل ـ دونما إثم ارتكبته أو تقصير ـ إلى كم مهمل لا يمثل أدنى قيمة بالنسبة للبطل. تصبح العلاقة عقيمة وخرساء أو كما يقول هو:" أقل حتى من الصداقة الباردة" حين يذهب إلى ألمانيا ويتزوجها.
ثانيا: الاسقاط Projective identification على هويات معيّنة: فهو يعزي الملامح الايجابية والسلبية (ويصنفها كذلك وفق تقدير مثالي خاص به يفتقر إلى النظرة الموضوعية) إلى آخرين ( أفراد أو المجتمع أو الله أو العقيدة) ويورطهم عمدا ـ على المستوى الفكري ـ في دائرته حتى يؤكد معتقداته الخاصة. الله يراهم وهم يغتصبونني .. تركهم يغتصبونني ..الله صامت... إما أن يكون غاضًبا علي أو غير موجود أصلا... أنا ضحية في كل الأحوال.. كلهم فعلوا بي هذا بما فيهم الرب إذا كان موجودا. نرى هنا أيضا وعيا طفوليا أو مختلا إذا ما حوكم في سياق الذات الآنية لأنه بهذا الشكل ستنتهي كل جرم على الأرض صغير أو كبير (سرقة موبايل من شاب مسالم يمشي في الشارع إلى الحرب العالمية الثانية) بنفس النتيجة.
ثالثا: تتجاور الحاجة إلى العدوان والتنفيس عن الغضب المكبوت مع الجوع الشديد إلى الفهم والحنان والعلاقات المستديمة وهما يتناوبان على هذه الذات.
رابعا: الخوف الشديد من هجر الآخرين أو الأخريات. يقول في الرواية ص 204: كنت أترك النساء بسرعة، ربما لأنني كنت أخشى أن يبادروا بتركي إذا علموا حقيقتي.
خامسا: الإنقلاب ضد أو على الذات إلى الحد الذي يصل إلى كراهية الذات واحتقارها بشدة.
أخلص هنا إلى أن شاكر بكل تساؤلاته وسلوكياته هو أقرب إلى اضطراب الشخصية الحِدِّّية والتي شارك في صنعها كل ما حولها لكنه ليس بريئا تماما لأنه لم يخلق خلاصه الروحي (رغم وجود الفرص) بالوعي والثقافة، السفر، والتلاقي مع الآخر، التجارب الحياتية المختلفة، الإيمان البسيط أو المعقد، الجزء الذي يقتنع به من الدين أو أيا كان، حتى التحقق على المستوى الاجتماعي "موش فارق معه خالص". اتضحت خصائص الشخصية الحدية في:
· وجود طراز مهيمن من توتر الذات وانعدام الاستقرار والثبوتية سواء على مستواها هي( لا الاسلام في صورته البسيطة أو الاخوانية، ولا الماهراجي راوات، ولا الصوفية، ولا الماركسية، ولا أي شيء جعل الذات في حالة سلام وتصالح مع نفسها) أو على مستوى علاقتها بالآخر ورؤيتها للعالم متراوحا بين حدي التقدير المثالي Idealization (الذي يحرم المرء من النظرة الموضوعية ويمنعه من فهم حقيقة الأشياء. في الرواية ص 32 يقول: أصبت بصدمة عندما عرفت أن بألمانيا أيضًا وحوشًا بشرية تختطف الأطفال البريئة وتغتصبهم...!! عملية الطهارة والتي يخضع لها كل الأطفال عبر عنها مثلا بوداعا للقضيب)، والتقليل من قيمة الأشياء Devaluation أيضا (والأمثلة كثيرة).
· اضطراب الهوية الدينية.(هل أنا مسلم؟ لا أعرف من أنا.... الرواية ص209)
· التهور والإندفاع السلوكي والذي ينطوي بشكل مضمر على تدمير للذات وكان واضحًا في إدمانه أفلام السكس ثم الجنس مع العاهرات والخمر.
· محاولات انتحار أوضحها تلك التي حاولها في البحيرة المتجمدة وأنقذته منها أنطونيا المخلصة ودخل على إثرها مستشفى المجانين كما يسميها. ثم محاولات ابتلاع زجاج متكسر وخنق نفسه بكابل التليفون.
· نوبات حادة من الضيق والكآبة الشديدة، والتوتر والقلق.
· شعور مزمن بالخواء في مصر أو ألمانيا أو اليابان، وشخصية ملولة متشائمة لا تهدأ ولا تستريح من فرط السأم ولاترى إلا أنصاف الأكواب الفارغة.
· غضب شديد مع عدم القدرة على السيطرة عليه كما في أفعاله العنيفة كلها والتي كان واعيا لها ويعبر عنها بصراحة بقوله" العنف الذي بداخلي" وكما اتضح في ضربه المبرح لزوجته والذي أفقدها القدرة على السمع.
وعلى هذا الأساس فإن الطرح الفكري لجدلية كجدلية العقيدة لا يستمد أهميته من ذاته وإنما هو مجرد مُورِّث آخر للقلق وتشوش الرؤيا وخاصة عندما يصدر عن وعي مختل وغير ناضج للذات.. وعي عالق في أسئلة الطفولة المبكرة الساذجة والتي تعاظمت ليس لما تنطوي عليه من قيمة أو أهمية وإنما هي منتج غياب الأجوبة عند البطل. يجاهد شاكر في طفولته المبكرة لحفظ القرآن بتشجيع من والده لأن أباه قد لاحظ أنه يتمتع بذاكرة قوية، في نفس الوقت نجد الأب منشغلا عنهم دومًا بمدرسة تحفيظ القرآن، والمعهد الديني، وشئون المسجد. هو ذات الأب الذي هرب من الميدان وترك أعز أصدقائه يتفحم في مدرعته. وهو يضرب زوجته ويتعاطى المسكرات والمخدرات. هو نموذج للازدواجية يعيد إلى أذهاننا سي السيد "أحمد عبد الجواد" عند نجيب محفوظ.
في الرواية ص 107: ".... ولكن قصصا أخرى في القرآن كانت تتنافى مع فهمي لرحمة الله وعدله. مثل قصة سيدنا يونس وأيوب وقصة الخضر الذي قتل غلاما خشية أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. وقصة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده فقام وحاول تنفيذ مارأى دون أدني اعتبار لمنطق أو مراعاة لحقوق طفل لا يعرف ماهي الرؤيا ومن هو الله!"
هذه قضايا محسومة بالنسبة لمن وجد بر الأمان وعقلن بعض وجهات النظر المحايدة والمنفتحة؛ لكنها لم تحسم بالنسبة للبطل لأنه لم يجد إجابات مقنعة وقد تجلى هذا في حوار بينه وبين أبيه في ص 108، و109 يقول له :" اسمع يابني مفيش حاجة اسمها تدور على ربنا." وهنا اتضح جهل الأب فكل الأنبياء بحثوا عن الله وكل الخلق مطالبين بالاستدلال على وجود الله من نعمه ومخلوقاته وهناك الأدلة العقلية والأدلة النقلية على وجود الله كما تعلمنا. لكن الأمر في النهاية يلتبس عند شاكر ويظل ملتبسا حتى النهاية. وبالمناسبة فإن حالة الالتباس والقلق العقائدي تمتد حتى آخر صفحات الرواية التي يقول فيها: "يا أرحم الراحمين ارحمنا يارب" الرواية ص 253. فهل ياترى وجد شاكر بر الأمان؟!
وخلل الوعي ليس فيما يخص العقيدة وحدها وإنما يمتد لوعي الذاكرة أيضا: فلنقرأ في الرواية ص76: قررت ألا أبقى يوما واحدا في القاهرة بعد ذلك. إن هذه المدينة لا تعرف أسماء أبنائها. إنها تخنق أولادها تحت أحجارها وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم في أنابيب مجاريها. جئت إليها فاتحا ذراعي وظننتها ستعانقني ولكنها حتى لم ترد علي السلام. لا أحد هنا ينصت لأحد.... تداخل الوعي الطفولي مع الوعي الآني في مواضع كثيرة من السرد أحدث بلبلة لأنه من المفترض أن الوعي الآني أنضج ويمتلك ميكانيزمات دفاع ايجابية الأمر الذي لم يحدث مع بطل الرواية. هل هذه مبررات طفل لم يتجاوز الرابعة والنصف من عمره؟ في ص77 عندما يتكلم عن مفهوم الأمانة والعدل عند جده لم يبد مقنعا.
ملاحظات سريعة
الفصل المعنون بمقابلة الرب في ماكدونالدز بدا مقحما ودعائيا، ولم يكن مقنعا لي على الأطلاق محاولة توليد موقف فكري اعتمادا على مفارقة لفظية. يقابل طفلا اسمه Gott وهي تعني الرب بالألمانية فيقول: "الرب يأكل في ماكدونالدز. ربما كانت هذه آية من السماء!!"الرواية ص 294.
في مستشفى المجانين:
أدهشتني للغاية عدة أشياء: أولها وضعه تحت حراسة في المستشفى الذي يعالج فيه المجرمون والمغتصبون والمدمنون وهو ليس كذلك. هذه جريمة غريبة في حق المريض النفسي ولا يمكن ارتكابها في بلد مثل مصر فمابالنا بألمانيا!. تلك المحاكمة التي شكلت له وقررت حبسه في المستشفى لأنه يشكل خطرا على نفسه ومحيطه لأنه حاول الهرب. أي محاكمة تجرى لمريض نفسي في مستشفى؟!!! غير مقنع لي على الإطلاق. لم يقنعني أيضا أن مريضا (شاكر) مكتئبا ويحاول الانتحار يحاول الايقاع بسوزانا الفتاة المغتصبة لأنها تعجبه. ليس هذا الاكتئاب الذي أعرفه! عقار مثل الهالوبريدول يسبب التواء اللسان بألم فعلا وهو ما يعرف في الطب ب: Extra Pyramidal Symptoms لكنها يمكن عكسها بسهولة باستخدام عقار آخر وأتعجب أن يخضع البطل لعملية تعذيب وتجاهل غير مبررة كتلك وهي جريمة أخرى في حق الممارسة الطبية، وبالمناسبة وتصحيحا للنسق المعرفي في الرواية فإن التشنجات ليس علاجها الصدمات أو الصعقات الكهربية أو الحبوب المسكنة للألم. (اعتذر عن هذه الملاحظات ولكن لا استطيع منع نفسي عنها بحكم المهنة)
اللغة:
تأثرت اللغة في عدة مواضع بلغة القرآن على مستوى الاقتباس. لم التقط لغة خاصة بالكاتب. باختصار هي لغة تقريرية بسيطة تحفل أحيانا ببعض التشبيهات، ولا تتجاوزها في معظم الأحيان إلى مناطق جمالية أعلى.
(وداعا أيتها السماء) الرواية الأولى لحامد عبد الصمد. ربما لأن الاسم جديد علي، أو لأن الرواية تنحو المنحى الأوتو بيوجرافي الذي يميز بواكير الكتابات الجديدة. والأوتو بيوجرافي (عندما يأتي في مستهل تجربة الكتابة) سلاح ذو حدين: إما أنه يعبر عن التجربة القريبة والمتاحة بسهولة، فيفتقر إلى التحليق واقتحام عوالم جديدة منتهيا بالدوران اللانهائي حول الذات. أو يقوم الكاتب متسلحا بالحياد والنضج العقلي بعملية الغربلة منتقيا لقرائه ما هو مختلف وخلافي في نفس الوقت. أعتقد أن هذه الرواية تقف بين هذين الحدين.
الذات هي بطل الرواية :
أنا لن أتعامل مع شخصية البطل في هذه الرواية على أنها تُقدّم جدلية فكرية جديرة بالنقاش أو داعية لإعادة النظر في مسائل الدين أو العقيدة، أو حتى إعادة البحث عن أجوبة لأسئلة عويصة، وإنما سأتعامل معها باعتبارها شخصية مضطربة نفسيا ومأزومة للغاية وعلى المستوى العلمي هي أقرب للشخصية الحدّية كما سأشرح لاحقا. إن ذات "شاكر" قد احتجزت في مرحلة سيئة من مراحل طفولته التي تأزّمت بفعل حادثتيْ اغتصاب ، قسوة الأب غير المبررة، سخرية الرفاق في المدرسة من لونه الأبيض وعينيه الملونتين وبالتالي خلع صفة "المرجلة" عنه، محاولة منه لاغتصاب أحد الأطفال الذي كان نائما إلى جواره ذات مرة؛ لكن القدر ألحق بها الفشل والحمد لله. بعبارة أخرى لقد علق وعيه في مرحلة بدائية ولم يفلح في النضج أو التطور لأن الذات فشلت في حل أزماتها والإجابة عن ما يؤرقها من أسئلة. هذه هي أزمات الطفولة الأوضح (وخاصة الانتهاك الجنسي) عند شاكر والتي ستبنى عليها الدينامية النفسية لشخصيته.
أول ملامح الدينامية النفسية هي الانشقاق Splitting حيث يقوم بتقسيم كل من حوله إلى من يحبونه ومن يكرهونه بما فيهم الله ذاته الذي قرر منذ البداية أنه لم يكن في صفه أبدا. فلنقرأ في الرواية ص 105:
ولأنني كنت قد مللت صمت إله السماء فقد جعلت من أبي إلها في الأرض.. ولأنني كنت أخشى أن يكون أبانا الذي في السماء مثل أبينا الذي على الأرض، فقد أضفيت على أبي صفات رب الخلائق.. وفي نهاية المطاف فإن كلاهما كان غاضبا منتقما ولا تؤمن جوانبه! أو يقسم الناس جميعا إلى طيبين وأشرار (الدنيا كلها يا أبيض يا أسود!) طبقا لمشاعره الذاتية غير الحيادية بالطبع وأفكاره الخاصة، وهي في ذات الوقت مشاعر متغيرة متقلبة وقد اتضحت بشدة في علاقته بأنطونيا المسكينة. أنطونيا التي رآها في مطار القاهرة جميلة، ومثقفة، ولديها لمحة أسطورية ما تتحوّل ـ دونما إثم ارتكبته أو تقصير ـ إلى كم مهمل لا يمثل أدنى قيمة بالنسبة للبطل. تصبح العلاقة عقيمة وخرساء أو كما يقول هو:" أقل حتى من الصداقة الباردة" حين يذهب إلى ألمانيا ويتزوجها.
ثانيا: الاسقاط Projective identification على هويات معيّنة: فهو يعزي الملامح الايجابية والسلبية (ويصنفها كذلك وفق تقدير مثالي خاص به يفتقر إلى النظرة الموضوعية) إلى آخرين ( أفراد أو المجتمع أو الله أو العقيدة) ويورطهم عمدا ـ على المستوى الفكري ـ في دائرته حتى يؤكد معتقداته الخاصة. الله يراهم وهم يغتصبونني .. تركهم يغتصبونني ..الله صامت... إما أن يكون غاضًبا علي أو غير موجود أصلا... أنا ضحية في كل الأحوال.. كلهم فعلوا بي هذا بما فيهم الرب إذا كان موجودا. نرى هنا أيضا وعيا طفوليا أو مختلا إذا ما حوكم في سياق الذات الآنية لأنه بهذا الشكل ستنتهي كل جرم على الأرض صغير أو كبير (سرقة موبايل من شاب مسالم يمشي في الشارع إلى الحرب العالمية الثانية) بنفس النتيجة.
ثالثا: تتجاور الحاجة إلى العدوان والتنفيس عن الغضب المكبوت مع الجوع الشديد إلى الفهم والحنان والعلاقات المستديمة وهما يتناوبان على هذه الذات.
رابعا: الخوف الشديد من هجر الآخرين أو الأخريات. يقول في الرواية ص 204: كنت أترك النساء بسرعة، ربما لأنني كنت أخشى أن يبادروا بتركي إذا علموا حقيقتي.
خامسا: الإنقلاب ضد أو على الذات إلى الحد الذي يصل إلى كراهية الذات واحتقارها بشدة.
أخلص هنا إلى أن شاكر بكل تساؤلاته وسلوكياته هو أقرب إلى اضطراب الشخصية الحِدِّّية والتي شارك في صنعها كل ما حولها لكنه ليس بريئا تماما لأنه لم يخلق خلاصه الروحي (رغم وجود الفرص) بالوعي والثقافة، السفر، والتلاقي مع الآخر، التجارب الحياتية المختلفة، الإيمان البسيط أو المعقد، الجزء الذي يقتنع به من الدين أو أيا كان، حتى التحقق على المستوى الاجتماعي "موش فارق معه خالص". اتضحت خصائص الشخصية الحدية في:
· وجود طراز مهيمن من توتر الذات وانعدام الاستقرار والثبوتية سواء على مستواها هي( لا الاسلام في صورته البسيطة أو الاخوانية، ولا الماهراجي راوات، ولا الصوفية، ولا الماركسية، ولا أي شيء جعل الذات في حالة سلام وتصالح مع نفسها) أو على مستوى علاقتها بالآخر ورؤيتها للعالم متراوحا بين حدي التقدير المثالي Idealization (الذي يحرم المرء من النظرة الموضوعية ويمنعه من فهم حقيقة الأشياء. في الرواية ص 32 يقول: أصبت بصدمة عندما عرفت أن بألمانيا أيضًا وحوشًا بشرية تختطف الأطفال البريئة وتغتصبهم...!! عملية الطهارة والتي يخضع لها كل الأطفال عبر عنها مثلا بوداعا للقضيب)، والتقليل من قيمة الأشياء Devaluation أيضا (والأمثلة كثيرة).
· اضطراب الهوية الدينية.(هل أنا مسلم؟ لا أعرف من أنا.... الرواية ص209)
· التهور والإندفاع السلوكي والذي ينطوي بشكل مضمر على تدمير للذات وكان واضحًا في إدمانه أفلام السكس ثم الجنس مع العاهرات والخمر.
· محاولات انتحار أوضحها تلك التي حاولها في البحيرة المتجمدة وأنقذته منها أنطونيا المخلصة ودخل على إثرها مستشفى المجانين كما يسميها. ثم محاولات ابتلاع زجاج متكسر وخنق نفسه بكابل التليفون.
· نوبات حادة من الضيق والكآبة الشديدة، والتوتر والقلق.
· شعور مزمن بالخواء في مصر أو ألمانيا أو اليابان، وشخصية ملولة متشائمة لا تهدأ ولا تستريح من فرط السأم ولاترى إلا أنصاف الأكواب الفارغة.
· غضب شديد مع عدم القدرة على السيطرة عليه كما في أفعاله العنيفة كلها والتي كان واعيا لها ويعبر عنها بصراحة بقوله" العنف الذي بداخلي" وكما اتضح في ضربه المبرح لزوجته والذي أفقدها القدرة على السمع.
وعلى هذا الأساس فإن الطرح الفكري لجدلية كجدلية العقيدة لا يستمد أهميته من ذاته وإنما هو مجرد مُورِّث آخر للقلق وتشوش الرؤيا وخاصة عندما يصدر عن وعي مختل وغير ناضج للذات.. وعي عالق في أسئلة الطفولة المبكرة الساذجة والتي تعاظمت ليس لما تنطوي عليه من قيمة أو أهمية وإنما هي منتج غياب الأجوبة عند البطل. يجاهد شاكر في طفولته المبكرة لحفظ القرآن بتشجيع من والده لأن أباه قد لاحظ أنه يتمتع بذاكرة قوية، في نفس الوقت نجد الأب منشغلا عنهم دومًا بمدرسة تحفيظ القرآن، والمعهد الديني، وشئون المسجد. هو ذات الأب الذي هرب من الميدان وترك أعز أصدقائه يتفحم في مدرعته. وهو يضرب زوجته ويتعاطى المسكرات والمخدرات. هو نموذج للازدواجية يعيد إلى أذهاننا سي السيد "أحمد عبد الجواد" عند نجيب محفوظ.
في الرواية ص 107: ".... ولكن قصصا أخرى في القرآن كانت تتنافى مع فهمي لرحمة الله وعدله. مثل قصة سيدنا يونس وأيوب وقصة الخضر الذي قتل غلاما خشية أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. وقصة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده فقام وحاول تنفيذ مارأى دون أدني اعتبار لمنطق أو مراعاة لحقوق طفل لا يعرف ماهي الرؤيا ومن هو الله!"
هذه قضايا محسومة بالنسبة لمن وجد بر الأمان وعقلن بعض وجهات النظر المحايدة والمنفتحة؛ لكنها لم تحسم بالنسبة للبطل لأنه لم يجد إجابات مقنعة وقد تجلى هذا في حوار بينه وبين أبيه في ص 108، و109 يقول له :" اسمع يابني مفيش حاجة اسمها تدور على ربنا." وهنا اتضح جهل الأب فكل الأنبياء بحثوا عن الله وكل الخلق مطالبين بالاستدلال على وجود الله من نعمه ومخلوقاته وهناك الأدلة العقلية والأدلة النقلية على وجود الله كما تعلمنا. لكن الأمر في النهاية يلتبس عند شاكر ويظل ملتبسا حتى النهاية. وبالمناسبة فإن حالة الالتباس والقلق العقائدي تمتد حتى آخر صفحات الرواية التي يقول فيها: "يا أرحم الراحمين ارحمنا يارب" الرواية ص 253. فهل ياترى وجد شاكر بر الأمان؟!
وخلل الوعي ليس فيما يخص العقيدة وحدها وإنما يمتد لوعي الذاكرة أيضا: فلنقرأ في الرواية ص76: قررت ألا أبقى يوما واحدا في القاهرة بعد ذلك. إن هذه المدينة لا تعرف أسماء أبنائها. إنها تخنق أولادها تحت أحجارها وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم في أنابيب مجاريها. جئت إليها فاتحا ذراعي وظننتها ستعانقني ولكنها حتى لم ترد علي السلام. لا أحد هنا ينصت لأحد.... تداخل الوعي الطفولي مع الوعي الآني في مواضع كثيرة من السرد أحدث بلبلة لأنه من المفترض أن الوعي الآني أنضج ويمتلك ميكانيزمات دفاع ايجابية الأمر الذي لم يحدث مع بطل الرواية. هل هذه مبررات طفل لم يتجاوز الرابعة والنصف من عمره؟ في ص77 عندما يتكلم عن مفهوم الأمانة والعدل عند جده لم يبد مقنعا.
ملاحظات سريعة
الفصل المعنون بمقابلة الرب في ماكدونالدز بدا مقحما ودعائيا، ولم يكن مقنعا لي على الأطلاق محاولة توليد موقف فكري اعتمادا على مفارقة لفظية. يقابل طفلا اسمه Gott وهي تعني الرب بالألمانية فيقول: "الرب يأكل في ماكدونالدز. ربما كانت هذه آية من السماء!!"الرواية ص 294.
في مستشفى المجانين:
أدهشتني للغاية عدة أشياء: أولها وضعه تحت حراسة في المستشفى الذي يعالج فيه المجرمون والمغتصبون والمدمنون وهو ليس كذلك. هذه جريمة غريبة في حق المريض النفسي ولا يمكن ارتكابها في بلد مثل مصر فمابالنا بألمانيا!. تلك المحاكمة التي شكلت له وقررت حبسه في المستشفى لأنه يشكل خطرا على نفسه ومحيطه لأنه حاول الهرب. أي محاكمة تجرى لمريض نفسي في مستشفى؟!!! غير مقنع لي على الإطلاق. لم يقنعني أيضا أن مريضا (شاكر) مكتئبا ويحاول الانتحار يحاول الايقاع بسوزانا الفتاة المغتصبة لأنها تعجبه. ليس هذا الاكتئاب الذي أعرفه! عقار مثل الهالوبريدول يسبب التواء اللسان بألم فعلا وهو ما يعرف في الطب ب: Extra Pyramidal Symptoms لكنها يمكن عكسها بسهولة باستخدام عقار آخر وأتعجب أن يخضع البطل لعملية تعذيب وتجاهل غير مبررة كتلك وهي جريمة أخرى في حق الممارسة الطبية، وبالمناسبة وتصحيحا للنسق المعرفي في الرواية فإن التشنجات ليس علاجها الصدمات أو الصعقات الكهربية أو الحبوب المسكنة للألم. (اعتذر عن هذه الملاحظات ولكن لا استطيع منع نفسي عنها بحكم المهنة)
اللغة:
تأثرت اللغة في عدة مواضع بلغة القرآن على مستوى الاقتباس. لم التقط لغة خاصة بالكاتب. باختصار هي لغة تقريرية بسيطة تحفل أحيانا ببعض التشبيهات، ولا تتجاوزها في معظم الأحيان إلى مناطق جمالية أعلى.
في النهاية لقد برع عبد الصمد في رسم تللك الشخصية الضائعة حتى الملل.