استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الأحد، 24 أغسطس 2008

عندما تحتجز الذات في زنزانة الطفولة الكارثية

وداعا أيتها السماء لحامد عبد الصمد... عندما تحتجز الذات في زنزانة الطفولة الكارثية

(وداعا أيتها السماء) الرواية الأولى لحامد عبد الصمد. ربما لأن الاسم جديد علي، أو لأن الرواية تنحو المنحى الأوتو بيوجرافي الذي يميز بواكير الكتابات الجديدة. والأوتو بيوجرافي (عندما يأتي في مستهل تجربة الكتابة) سلاح ذو حدين: إما أنه يعبر عن التجربة القريبة والمتاحة بسهولة، فيفتقر إلى التحليق واقتحام عوالم جديدة منتهيا بالدوران اللانهائي حول الذات. أو يقوم الكاتب متسلحا بالحياد والنضج العقلي بعملية الغربلة منتقيا لقرائه ما هو مختلف وخلافي في نفس الوقت. أعتقد أن هذه الرواية تقف بين هذين الحدين.
الذات هي بطل الرواية :
أنا لن أتعامل مع شخصية البطل في هذه الرواية على أنها تُقدّم جدلية فكرية جديرة بالنقاش أو داعية لإعادة النظر في مسائل الدين أو العقيدة، أو حتى إعادة البحث عن أجوبة لأسئلة عويصة، وإنما سأتعامل معها باعتبارها شخصية مضطربة نفسيا ومأزومة للغاية وعلى المستوى العلمي هي أقرب للشخصية الحدّية كما سأشرح لاحقا. إن ذات "شاكر" قد احتجزت في مرحلة سيئة من مراحل طفولته التي تأزّمت بفعل حادثتيْ اغتصاب ، قسوة الأب غير المبررة، سخرية الرفاق في المدرسة من لونه الأبيض وعينيه الملونتين وبالتالي خلع صفة "المرجلة" عنه، محاولة منه لاغتصاب أحد الأطفال الذي كان نائما إلى جواره ذات مرة؛ لكن القدر ألحق بها الفشل والحمد لله. بعبارة أخرى لقد علق وعيه في مرحلة بدائية ولم يفلح في النضج أو التطور لأن الذات فشلت في حل أزماتها والإجابة عن ما يؤرقها من أسئلة. هذه هي أزمات الطفولة الأوضح (وخاصة الانتهاك الجنسي) عند شاكر والتي ستبنى عليها الدينامية النفسية لشخصيته.
أول ملامح الدينامية النفسية هي الانشقاق Splitting حيث يقوم بتقسيم كل من حوله إلى من يحبونه ومن يكرهونه بما فيهم الله ذاته الذي قرر منذ البداية أنه لم يكن في صفه أبدا. فلنقرأ في الرواية ص 105:
ولأنني كنت قد مللت صمت إله السماء فقد جعلت من أبي إلها في الأرض.. ولأنني كنت أخشى أن يكون أبانا الذي في السماء مثل أبينا الذي على الأرض، فقد أضفيت على أبي صفات رب الخلائق.. وفي نهاية المطاف فإن كلاهما كان غاضبا منتقما ولا تؤمن جوانبه! أو يقسم الناس جميعا إلى طيبين وأشرار (الدنيا كلها يا أبيض يا أسود!) طبقا لمشاعره الذاتية غير الحيادية بالطبع وأفكاره الخاصة، وهي في ذات الوقت مشاعر متغيرة متقلبة وقد اتضحت بشدة في علاقته بأنطونيا المسكينة. أنطونيا التي رآها في مطار القاهرة جميلة، ومثقفة، ولديها لمحة أسطورية ما تتحوّل ـ دونما إثم ارتكبته أو تقصير ـ إلى كم مهمل لا يمثل أدنى قيمة بالنسبة للبطل. تصبح العلاقة عقيمة وخرساء أو كما يقول هو:" أقل حتى من الصداقة الباردة" حين يذهب إلى ألمانيا ويتزوجها.
ثانيا: الاسقاط Projective identification على هويات معيّنة: فهو يعزي الملامح الايجابية والسلبية (ويصنفها كذلك وفق تقدير مثالي خاص به يفتقر إلى النظرة الموضوعية) إلى آخرين ( أفراد أو المجتمع أو الله أو العقيدة) ويورطهم عمدا ـ على المستوى الفكري ـ في دائرته حتى يؤكد معتقداته الخاصة. الله يراهم وهم يغتصبونني .. تركهم يغتصبونني ..الله صامت... إما أن يكون غاضًبا علي أو غير موجود أصلا... أنا ضحية في كل الأحوال.. كلهم فعلوا بي هذا بما فيهم الرب إذا كان موجودا. نرى هنا أيضا وعيا طفوليا أو مختلا إذا ما حوكم في سياق الذات الآنية لأنه بهذا الشكل ستنتهي كل جرم على الأرض صغير أو كبير (سرقة موبايل من شاب مسالم يمشي في الشارع إلى الحرب العالمية الثانية) بنفس النتيجة.
ثالثا: تتجاور الحاجة إلى العدوان والتنفيس عن الغضب المكبوت مع الجوع الشديد إلى الفهم والحنان والعلاقات المستديمة وهما يتناوبان على هذه الذات.
رابعا: الخوف الشديد من هجر الآخرين أو الأخريات. يقول في الرواية ص 204: كنت أترك النساء بسرعة، ربما لأنني كنت أخشى أن يبادروا بتركي إذا علموا حقيقتي.
خامسا: الإنقلاب ضد أو على الذات إلى الحد الذي يصل إلى كراهية الذات واحتقارها بشدة.
أخلص هنا إلى أن شاكر بكل تساؤلاته وسلوكياته هو أقرب إلى اضطراب الشخصية الحِدِّّية والتي شارك في صنعها كل ما حولها لكنه ليس بريئا تماما لأنه لم يخلق خلاصه الروحي (رغم وجود الفرص) بالوعي والثقافة، السفر، والتلاقي مع الآخر، التجارب الحياتية المختلفة، الإيمان البسيط أو المعقد، الجزء الذي يقتنع به من الدين أو أيا كان، حتى التحقق على المستوى الاجتماعي "موش فارق معه خالص". اتضحت خصائص الشخصية الحدية في:
· وجود طراز مهيمن من توتر الذات وانعدام الاستقرار والثبوتية سواء على مستواها هي( لا الاسلام في صورته البسيطة أو الاخوانية، ولا الماهراجي راوات، ولا الصوفية، ولا الماركسية، ولا أي شيء جعل الذات في حالة سلام وتصالح مع نفسها) أو على مستوى علاقتها بالآخر ورؤيتها للعالم متراوحا بين حدي التقدير المثالي Idealization (الذي يحرم المرء من النظرة الموضوعية ويمنعه من فهم حقيقة الأشياء. في الرواية ص 32 يقول: أصبت بصدمة عندما عرفت أن بألمانيا أيضًا وحوشًا بشرية تختطف الأطفال البريئة وتغتصبهم...!! عملية الطهارة والتي يخضع لها كل الأطفال عبر عنها مثلا بوداعا للقضيب)، والتقليل من قيمة الأشياء Devaluation أيضا (والأمثلة كثيرة).
· اضطراب الهوية الدينية.(هل أنا مسلم؟ لا أعرف من أنا.... الرواية ص209)
· التهور والإندفاع السلوكي والذي ينطوي بشكل مضمر على تدمير للذات وكان واضحًا في إدمانه أفلام السكس ثم الجنس مع العاهرات والخمر.
· محاولات انتحار أوضحها تلك التي حاولها في البحيرة المتجمدة وأنقذته منها أنطونيا المخلصة ودخل على إثرها مستشفى المجانين كما يسميها. ثم محاولات ابتلاع زجاج متكسر وخنق نفسه بكابل التليفون.
· نوبات حادة من الضيق والكآبة الشديدة، والتوتر والقلق.
· شعور مزمن بالخواء في مصر أو ألمانيا أو اليابان، وشخصية ملولة متشائمة لا تهدأ ولا تستريح من فرط السأم ولاترى إلا أنصاف الأكواب الفارغة.
· غضب شديد مع عدم القدرة على السيطرة عليه كما في أفعاله العنيفة كلها والتي كان واعيا لها ويعبر عنها بصراحة بقوله" العنف الذي بداخلي" وكما اتضح في ضربه المبرح لزوجته والذي أفقدها القدرة على السمع.

وعلى هذا الأساس فإن الطرح الفكري لجدلية كجدلية العقيدة لا يستمد أهميته من ذاته وإنما هو مجرد مُورِّث آخر للقلق وتشوش الرؤيا وخاصة عندما يصدر عن وعي مختل وغير ناضج للذات.. وعي عالق في أسئلة الطفولة المبكرة الساذجة والتي تعاظمت ليس لما تنطوي عليه من قيمة أو أهمية وإنما هي منتج غياب الأجوبة عند البطل. يجاهد شاكر في طفولته المبكرة لحفظ القرآن بتشجيع من والده لأن أباه قد لاحظ أنه يتمتع بذاكرة قوية، في نفس الوقت نجد الأب منشغلا عنهم دومًا بمدرسة تحفيظ القرآن، والمعهد الديني، وشئون المسجد. هو ذات الأب الذي هرب من الميدان وترك أعز أصدقائه يتفحم في مدرعته. وهو يضرب زوجته ويتعاطى المسكرات والمخدرات. هو نموذج للازدواجية يعيد إلى أذهاننا سي السيد "أحمد عبد الجواد" عند نجيب محفوظ.
في الرواية ص 107: ".... ولكن قصصا أخرى في القرآن كانت تتنافى مع فهمي لرحمة الله وعدله. مثل قصة سيدنا يونس وأيوب وقصة الخضر الذي قتل غلاما خشية أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. وقصة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده فقام وحاول تنفيذ مارأى دون أدني اعتبار لمنطق أو مراعاة لحقوق طفل لا يعرف ماهي الرؤيا ومن هو الله!"
هذه قضايا محسومة بالنسبة لمن وجد بر الأمان وعقلن بعض وجهات النظر المحايدة والمنفتحة؛ لكنها لم تحسم بالنسبة للبطل لأنه لم يجد إجابات مقنعة وقد تجلى هذا في حوار بينه وبين أبيه في ص 108، و109 يقول له :" اسمع يابني مفيش حاجة اسمها تدور على ربنا." وهنا اتضح جهل الأب فكل الأنبياء بحثوا عن الله وكل الخلق مطالبين بالاستدلال على وجود الله من نعمه ومخلوقاته وهناك الأدلة العقلية والأدلة النقلية على وجود الله كما تعلمنا. لكن الأمر في النهاية يلتبس عند شاكر ويظل ملتبسا حتى النهاية. وبالمناسبة فإن حالة الالتباس والقلق العقائدي تمتد حتى آخر صفحات الرواية التي يقول فيها: "يا أرحم الراحمين ارحمنا يارب" الرواية ص 253. فهل ياترى وجد شاكر بر الأمان؟!
وخلل الوعي ليس فيما يخص العقيدة وحدها وإنما يمتد لوعي الذاكرة أيضا: فلنقرأ في الرواية ص76: قررت ألا أبقى يوما واحدا في القاهرة بعد ذلك. إن هذه المدينة لا تعرف أسماء أبنائها. إنها تخنق أولادها تحت أحجارها وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم في أنابيب مجاريها. جئت إليها فاتحا ذراعي وظننتها ستعانقني ولكنها حتى لم ترد علي السلام. لا أحد هنا ينصت لأحد.... تداخل الوعي الطفولي مع الوعي الآني في مواضع كثيرة من السرد أحدث بلبلة لأنه من المفترض أن الوعي الآني أنضج ويمتلك ميكانيزمات دفاع ايجابية الأمر الذي لم يحدث مع بطل الرواية. هل هذه مبررات طفل لم يتجاوز الرابعة والنصف من عمره؟ في ص77 عندما يتكلم عن مفهوم الأمانة والعدل عند جده لم يبد مقنعا.
ملاحظات سريعة
الفصل المعنون بمقابلة الرب في ماكدونالدز بدا مقحما ودعائيا، ولم يكن مقنعا لي على الأطلاق محاولة توليد موقف فكري اعتمادا على مفارقة لفظية. يقابل طفلا اسمه Gott وهي تعني الرب بالألمانية فيقول: "الرب يأكل في ماكدونالدز. ربما كانت هذه آية من السماء!!"الرواية ص 294.
في مستشفى المجانين:
أدهشتني للغاية عدة أشياء: أولها وضعه تحت حراسة في المستشفى الذي يعالج فيه المجرمون والمغتصبون والمدمنون وهو ليس كذلك. هذه جريمة غريبة في حق المريض النفسي ولا يمكن ارتكابها في بلد مثل مصر فمابالنا بألمانيا!. تلك المحاكمة التي شكلت له وقررت حبسه في المستشفى لأنه يشكل خطرا على نفسه ومحيطه لأنه حاول الهرب. أي محاكمة تجرى لمريض نفسي في مستشفى؟!!! غير مقنع لي على الإطلاق. لم يقنعني أيضا أن مريضا (شاكر) مكتئبا ويحاول الانتحار يحاول الايقاع بسوزانا الفتاة المغتصبة لأنها تعجبه. ليس هذا الاكتئاب الذي أعرفه! عقار مثل الهالوبريدول يسبب التواء اللسان بألم فعلا وهو ما يعرف في الطب ب: Extra Pyramidal Symptoms لكنها يمكن عكسها بسهولة باستخدام عقار آخر وأتعجب أن يخضع البطل لعملية تعذيب وتجاهل غير مبررة كتلك وهي جريمة أخرى في حق الممارسة الطبية، وبالمناسبة وتصحيحا للنسق المعرفي في الرواية فإن التشنجات ليس علاجها الصدمات أو الصعقات الكهربية أو الحبوب المسكنة للألم. (اعتذر عن هذه الملاحظات ولكن لا استطيع منع نفسي عنها بحكم المهنة)
اللغة:
تأثرت اللغة في عدة مواضع بلغة القرآن على مستوى الاقتباس. لم التقط لغة خاصة بالكاتب. باختصار هي لغة تقريرية بسيطة تحفل أحيانا ببعض التشبيهات، ولا تتجاوزها في معظم الأحيان إلى مناطق جمالية أعلى.
في النهاية لقد برع عبد الصمد في رسم تللك الشخصية الضائعة حتى الملل.

الاثنين، 18 أغسطس 2008

هل وجدت ماهينور حلا يرضي جميع الأطراف؟

التأمل في الكون ينتقل من جيناتي إلى ماهينور، وهاهي الآن تفكر باستغراق شديد في أزمة الشرق الأوسط!

السبت، 16 أغسطس 2008

الفاعل لحمدي أبو جليل .. الرواية المسموعة

الفاعل لحمدي أبو جليل.. الرواية المسموعة

قرأتها لكم أسماء شهاب الدين

هذه الرواية ولا شك أفضل من الرواية السابقة للكاتب حمدي أبو جليل لصوص متقاعدون. لقد استطاع أبو جليل الاحتفاظ بقاريء متململ مثلي من الجلدة للجلدة. أضحكني حتى الثمالة، ودفعني للتأمل، وأثار لدي شجونا، ورفعت حاجبي دهشة.. كل هذا في رواية واحدة.
هي كما أظن رواية سيرة ذاتية. رواية لأنه كاتبها وأسماها كذلك وبالتأكيد لعب التخييل الروائي دورا لا يستهان به هنا، وسيرة ذاتية لأنه يحضر فيها باسمه وكتابته ومهنته وعائلته، وطبعا ضمير السرد الجبار أنا. قليلة هي الروايات التي تنتمي لهذا التصنيف، فهي تتطلب الكثير من الشجاعة الأدبية لكن الثمرة تكون ناضجة وحين نقضمها نستمتع بها كقراء لأننا نبدو وكأننا نشارك في عملية تلصص حميمة.. عملية تجسس (لذة أن نراهم عيانا بيانا، وهم لا يروننا)على مجموعة منتقاة من البني آدميين مسحورين بفكرة أن هذا حقيقي، أنه حدث فعلا.
الاقتباسان في مستهل الكتابة:
لقد استخدم أبو جليل اقتباسين: الأول لإبراهيم منصور يقول: البعض معه فكة، والبعض ليس معه فكة.. وهكذا الحياة. الثاني لمارجريت دورا: أعتقد أن ما حدث لي يحدث لكل إنسان آخر بدون أي اختلاف. هما عتبة النص بالنسبة لي. اعتبر الأول ركيكا في لغته وفي نوع الرمز(الفكة) الذي يعتمده من أجل تقديم الحكمة من خلاله، ويمكن أن يقوله الفواعلي، ويستشهد به في كلامه. والثاني راقيا ومتفلسفا ببساطة جمة (أدبي بامتياز). يعكس الاقتباسان حالة من الانفصامية تسود الرواية كلها كثيمة مهيمنة (الراقي في مقابل الوضيع. الهوية المتفردة التي تمنحها الكتابة في مقابل الأصل البدوي ذي النفخة الكاذبة والعنطزة الفارغة لو جاز التعبير. المنفتح في مقابل القَبَلِي. الوعي في مقابل الجهل. الأمل في الترقي في مقابل الاستكانة الاجتماعية أو التجمّد عند مرحلة معينة) على المضمون واللغة وتقنية الكتابة.
بطل الرواية/ السارد بضمير الأنا/ حمدي أبو جليل قدم شخصيته بشجاعة يحسد عليها وبإحكام شديد في سياقاتها الاجتماعية والثقافية، وقدم لنا عائلته بسخرية عبقرية ملونة بنوع عجيب من الحياد(إن قوما بهذا القدر من الغباء والكِبْر لا يصح معهم سوى أن يقهقه وهو ينتقدهم علهم يغفروا له في محاولة ممتازة للتمويه). أعتقد أن هذا الحياد يعكس مولد الوعي (الوعي بالذات/ بالاختلاف عن قومه/ منذ أول سطور الرواية. أبو جليل كان أمينا في تقديمه لشخصية البطل البدوي. العرب أو البدو أقلية. إنه يفكر ويتصرف بأسلوب فرد من الأقلية اختزل الوطن بالنسبة له في عزبة صحراوية بالقرب من الفيوم. متردد ومواقفه مائعة (في الحب وفي السياسة وفي التعليم) ولا ينطلق من أرضية انتماء صلبة للوطن الأم الذي يصطدم به بشدة في القاهرة وفي العواصم الإقليمية، غير الواثق في إمكانياته كما يقول في ص 11. دوما يشعر بالغربة وتبدو شبرا بالنسبة له كإيطاليا أرض الأحلام بالنسبة للشباب العاطل عن العمل أو كل المصريين الذين كرهوا البلد. إنه ليس فاعلا على الإطلاق. هو البطل الضد متوار خلف شخصيات الدكتور، وعولة، والمعلم مطر، وبكر وغيرهم.
مضمومات قصصية في عقد الرواية:
هذه هي التقنية المحيرة التي اعتمدها أبو جليل للحكي هنا. سماها الأديب الكبير خيري شلبي تكنيك الهرتكة يقصد به المزق الملمومة على عجل. إن كل فصل يكاد يكون قصة قصيرة منفصلة بذاتها لكنها متصلة بالسياق العام. مضافا إلى ذلك أنها لا تخضع لترتيب زمني متصاعد من الأقدم للأحدث بل كتبها أبو جليل كما عنّ له، وعلى القاريء أن يرتبها في عقله وهي مهمة ليست من الصعوبة بحال مع هذه الشخصيات / الكائنات المدهشة التي طرحها. لكن الحيرة مبعثها أن هذه التقنية مع هذا العالم غير مشبعة لأنها
أولا:اعتمدت تقديما ساخرا للأخبار تارة، او اقتصادا سرديا قد يلائم مقام القصة القصيرة تارة أخرى.
ثانيا: وكما يقال العينة بينة أي أننا أيقنا بثراء هذا العالم وبكثرة مافي جراب الحاوي، لذلك نطالب بالمزيد كقراء معتدين على حقه الأدبي في أن ينتقي لنا مايشاء!
وأستعير مقولة خيري شلبي الجميلة هنا: "أغلب ظني أن حمدي أبو جليل قد صرّ عالمه في منديل محلاوي وربطه حول رأسه ثم فرطه أمامنا كيفما اتفق إلا ان الفتافيت والمزق كانت طعاما شهيا أكلناه قرقشناه بلذة فائقة تفوق لذة الأكل على موائد الدسم."
يبقى سؤال بخصوص سيرة الوعي. لقد فرضت هذه التقنية هيمنة الوعي الآني على كل ما سبقها من أحداث. كنت أريد أن أعرف متى بدأت الصدمة المعرفية الأولي (لا أظنها في معهد أم حسن). متى علم أنه مختلف/ موهوب/ خارج القطيع؟ كيف انفعل ككاتب بأول كتاب أدبي قرأه، وكيف كابد مع اللغة، أقصد لغة الكتابة؟
جدلية اللغة:
لو جاء الحوار في هذه الرواية بغير العامية (سواء أكانت قاهرية أو بدوية) التي كتب بها لانضرب الصدق الفني في مقتل. أما باقي أشكال اللغة في هذه الرواية فقد طالته العشوائية في كثير من المواضع. شهدت الرواية في الربع الأول منها تضفيرا متوازنا ومتقنا بين الفصحى والعامية. ووجدنا حمدي أبو جليل يضع كلمات العامية بين أقواس مثل: "النومة" (وهي تصلح فصيحة)، " تباعا"، "ينضف"، "أشوّن"، "إيه وليه"، "المرمطة" وهكذا (مع العلم أن معظمها فصيح أصلا أو يمكن بسهولة إخضاعه لقوانين الفصحى) وقُبِلَت في سياقها كما الحوار مقبول في سياقه. بعد ذلك بدا وكأن الكاتب ماعاد يعير المسألة اهتماما، فاختلط الحابل بالنابل وشهدت الفصحى في كثير من مواضعها (رغم كونه قادرا على إخراج طاقات متميزة في الفصحى) أخطاء نحوية كثيرة وخاصة في نصب المفعول به، ودخلت العامية في مواضع كثيرة بلا مبرر في وسط سياقات فصيحة لا يضيرها شيئا لوأكمل أناقتها وجمالها بالبديل الفصيح. في صفحة 108 مثلا: "أحيانا كنت أحسبها له، مساحته لا تزيد عن ميتين(بدلا من مائتي) متر، ولن يحتاج أكثر من عشرة أنفار. تتحفر القواعد (بدلا من تُحفر)،وتتسلح، وتتصب (بدلا من تُصَب)، وتطلع العواميد (بدلا من الأعمدة)، وهما شهرين (بدلا من وهما شهران)...، وتلاقي (بدلا من تلقى) التلت(بدلا من الثلاث)... " والعامية تكتب كما تنطق، وينبغي أن يلتزم فيها بالمد بالألف حتى تفهم أيضا.
في الرواية ص 57:"وكانت الدنيا برد، تلج والله". تلج بالتاء. الأمثلة كثيرة وفي رأيي ربما تعكس عدم توفيق في محاولة لإنتاج رواية تسمع على الملأ / شفاهية. هل يكون الأمر مجرد سخرية من الفصحى، وهل هذا نوع بلدي من التشظي؟ بدا الأمر عشوائيا جدا ويشبه انتصار لغة الفواعلي على لغة الأديب، أندهش لما فعله أبو جليل في لغة روايته وخاصة عندما أنظر لبعض مواضع الفصحى في الرواية التي هي في منتهى الجمال. إقرأوا معي هذا الجزء:
"البيت أربع طوابق، زواياه من الحجر النحيت، بني تقريبا في بواكير القرن العشرين، وهيئته الراهنة لاتبشر بأي خير. مطر قَاوَلَ سكانه على مخاتلته، خطفه، تنكيسه أثناء بنائه في السر، البيت المتصدع بالنسبة له أشبه بعجوز قانع يستعجل نهايته، وجراحته تهدف لتمكينه من نعيم النهاية والحياة معا، شيء يشبه إخراج الميت من الحي وإخراج الحي من الميت، لا يقترب أبدا من أسلوب عمارته، وأحيانا يضيف إليها ما شاء من الطوابق، وفي نفس الوقت يطلق معاول الهدم". الرواية ص 142.
أعادت لي هذه الرواية ذكرى "الخبز الحافي" لمحمد شكري، كلتاهما رواية سيرة ذاتية، وتفضحان عوالم سفلية وحضيضية. كان محمد شكري في الزمن الذي كتب فيه سيرته لا يقرأ و لا يكتب أصلا أي أن أبو جليل متفوق عليه معرفيا بمراحل. فلنلق نظرة (كلنا من معي ومن ضد رأيي )على لغة شكري في الخبز الحافي، وعذرا لأني في هذا الموضع أحيل إلى رواية أخرى.




شخصيات بحاجة لبعض التأمل:
إيمان العظيمة التي فضت بكارته. مر عليها مرور أكرم الكرام. المرأة/ إمرأة الأديب/ الملهمة/ التجربة الاستثنائية/ صنو العقل والشعور غائبة تماما في مقابل سمانة رجل هنا ونهد هناك وهلم جرا. ربما كانت كل علاقات الحب بالنسبة لواقع الراوي مشوهة وغير مكتملة كما ظهرت في النص الروائي وكنت أتمنى أن يلعب التخييل دوره هنا ليقدم لنا شخصية ثرية أخرى.


أسماء شهاب الدين


طرح مهاب أخيرا في الأسواق

بعد النجاح منقطع النظير لماهينور نجمة المدونة، نقدم لكم توأمها، الروحي والبيولوجي، أخاها الذي يكبرها بتسع دقائق فقط لا غير مهاب ، معذبها ومفجر دموعها، وهو هنا في سبيله لإقامة تصالح مع الذات.
من أسماء شهاب الدين
أم مهاب وماهينور
Posted by Picasa

الأربعاء، 13 أغسطس 2008

في مووود المناسبات الأدبية من كم شهر في مكتبة آفاق
لمحة..

أسماء شهاب الدين
كاتبة وطبيبة مصرية.

صدر لها:
ربما كالآخرين: قصص، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، 2003.
ابن النجوم: قصص، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003.

الجوائز:
_ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقات سعاد الصباح للإبداع الأدبي، الكويت، دورة 2003-2004.
_ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقة دبي الثقافية، الإمارات العربية المتحدة 2005 .
ـ جائزة المركز الثالث في الرواية، عام 2003، المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2003.
ـ جائزة المركز الأول في الرواية في المسابقة الإقليمية (أحمد فتحي عامر، مستشار دار الفكر العربي) برعاية دار أخبار اليوم، في دورتها الأولى، عام 2003.
ـ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقة عبد الرحمن الشرقاوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، عام 2004.
Posted by Picasa
يكفيني سنتيمتر واحد فقط من الحنان
Posted by Picasa

ماهينور ابنتي الحلو حلو ولو على ريق النوم

Posted by Picasa

الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

رسالة إلى الوجه المسافر....إهداء إلى محمود درويش الله يرحمه

’وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب‘
محمود درويش
أخي الحبيب غسّان:
هذه هي المرة الأولى التي أكتب لك فيها رسالة أخطّها بقلمي على أوراق نزعتها من دفتر اللغة العربية، بعدما تيقنت أني لن استخدمه مرة أخرى؛ لكنني ـ والله ـ فكرتُ في ذلك كثيرا، ياغسان وأنا أحاول أن أرسم صورة لملامح وجهك، وزن جسمك، شكل عضلاتكَ وحجم انتفاخها، حركاتكَ وسكناتك ولزماتك الكلامية. أعلمك مبدئيا بأنه ستكون هناك رسائل ورسائل مكتوبة على أوراق انتزعتها من دفاتر مدرستي التي أغلقت أبوابها في وجوهنا.
حين غادرتنا وابن عمنا تميم، كنت صغيرا وكنت أنا أصغر من أن أعي سبب انتحاب أمي حتى الإغماء، وتقطيب حواجب أخواتي البنات الكبيرات، والدموع الساخنة الناضجة في عيونهن؛ لكنني حزنت للغاية لأن تميم الشاب الودود ـ الذي كان يعلّقني بساقه الطويلة، ويؤرجحني حتى يتقلص بطني من فرط الضحك، وأكاد أسقط من صهوة تلك الساق الفتية إلى الأرض الخشنة ـ سيغادرنا، وستغادرني بعده ضحكتي الحلوة. قالوا بأنه لن يعود، وقد صدقتهم من فوري؛ ولكني وعندما كبرت قليلا ودون أن أعدم وعيي الطفولي المختل، كنت أمارس انتظارك الكئيب!
لابد أن يد الله قد سوّتك جميلا. أمي تقول: ’غسان له أنف أبيه واستدارة وجهه، وكان أبوك جميلا‘. الآن عرفت يا أخي كم كان أبونا كذلك! جميلا لأن أمي كانت تستقبل بوله أسيتوني الرائحة ـ الذي كان يوقظني عطره من نومي لأبكيه ـ المنسال بين ساقيه المشلولتين إلى الوعاء البلاستيكي، المثقلة جدرانه بالأملاح اليابسة، بانحناءة هادئة أظنها اليوم انحناءة مشبّعة بالود والتقدير. أتعلم يا غسّان أن كلنا لنا أنفه وذقنه وعينيه، وللناس كلها هنا عيون تشبه عينيه بلون الزيتون تترقرق فيها أمواج هادئة شفاّفة، هل يكون قبيحا من له مثل هذي العيون التي يبحر فيها الأسى يا غسّان؟! إني أيضا أحمل جمال قلبه في قلبي (لا أقصد نعت قلبي بالجمال، فأنا لست كذلك. أنا أقصد ما تقصفني به ذاكرتي بخصوصه. آآآه يا أبي، أولا تدري ماذا يفعل بنا هذا الشيء؟! هذا الشيء الرهيف في التوقيت المضبوط الرهيف في الظرف الرهيف..في القلب الرهيف؟ أصبحت صورتك تأتيني دوما، وأنت جالس معنا إلى صحيفة الطعام الوحيدة على الأرض، ترتدي جلبابك الرمادي الواسع، ظهرك محنيّ قليلا، وكتفاك تنضمّان بارتجافة خفيفة لتظلّلا صدرك؛ وكأنهما شراع يحنو عليه بالرعاية والأمان، وكأنك أيضا شراع تحنو علينا ـ نحن الجالسين حولك ـ بالرعاية والأمان. نتشارك جميعا في ثلثيّ الصحن الكبير حتى تسحب يديْك وتكورهما في حجرك، ونشاط أيادينا في الصحن يقابله بنفس النهم نشاط عينيك في محجريهما في أيادينا الصغار في الطبق.. نشاط يحاول أن يطمس خجل الجوع بابتسامة رضا. حتى إذا كفّت رقعات صحن الصاج الراقص تحت أصابعنا على الأرض العريانة، جمعت يداك لقيمات رفضتها شهيتنا، وازدرادك لها بعد أن نظّفت بها الصحن يشي بك عندي، ولا يترك شيئا لدناءة الشيطان بعدك، وياللخسارة أني أمضيت وقتا طويلا لأرسم تفاصيل صورتك، ولتطرح تلك الوشاية بك عندي هذي الرهافة لك في قلبي.
صحوتُ من نومي اليوم يهدّني إرهاق شديد كأني كنت اصطرع مع ظلّي! ربما أكون كذلك حقا. وعلى عكسك تماما، فأنت تعرف مع من تصطرع. وربما ينبغي علي أن أعلمك أني بدأت اكتب إليك في ذات الوقت الذي كففت فيه عن إطلاق حنقي عليك! لاحظ أن حدة اللهجة التي تميز هذا الخطاب ليست حنقا عليك بالتأكيد وإنما هي سمة لكل الإناث اللائي بلا رجال. في صباحات كثر ولت، وقبل ذهابي للمدرسة مباشرة، أسأل طيفك المقيم في دارنا: ’لما تركتنا يا غسان، أأنت المنذور لنبوّة تبحث عنها في مكان لا نعرفه ونحن هنا ـ إناث الدارـ دمى يحركها جوع بطونها الغاضبة؟ ولماذا قمت بتوزيع الأدوار بعد موت أبي مباشرة ؟‘ وكأنك لا تعرف أن الدور خاليةٌ من مهمّات النساء، ونطف الرجال، وكأن روح أبي قد دبت فيك أنت! أو استأمنك عليها أو تركها عندك! يا إلهي أستغفرك.
تركتنا يا غسان لنكون ـ أمي وأنا وأخواتك ـ بلا رائحة متعبة لعرق رجل يعول جوع أجسادنا، بلا عضلات تحمل هموم أيامنا، بلا أحضان رجولية تتلقف ضعفنا لتقتله في مهده، بلا رجل يغار على ضفائرنا الهاربة باتجاه الضوء والهواء، بلا رجل يُشرب الفتيات الصغيرات رجولته ليتمكنّ من الشهيق والزفير على هذه الأرض. هل تركتنا حقا للتناسل الخصيب الطاهر؟ هل حملتنا وحدنا مسئولية إنتاج ديدان الأرض كما يقول عضو الكنيست الإسرائيلي حزان؟
حين مزقني حنقي عليك، قصصت ضفائري، وارتديت بذلة كاكية متهرئة كانت لأبي، وصرخت في وجه أمي: ’سأرحل كما رحل غسان ومن قبله أبي. ’لقد مللتُ البكاء، وقد اخشنّت كفّاي بما فيه الكفاية!‘ بكت أمي كثيرًا؛ لكني علمت قلبي كيف يقسو. انتحبتْ ذلك النحيب الذي أمقته، وقلبي يقسو. جثت على ركبتيها أمامي، وقلبي يقسو. قبّلت قدمي، وقلبي يقسو. أغشي عليها وسقطت بجانب جديلتيَّ المُجْتَثتيْن على الأرض. لم أكن أريدها تمارس كل ذلك البكاء المقيت! مازالت أمي قربانا لقسوة قلوبنا كلنا يا غسان، أقول هذا رغم عدولي عن فكرتي الانتقامية التي لم تكن تستهدف سوي سحق قدرتها العجيبة على كل هذا البكاء. أخواتك يقلن لي ليتك خلقت ذكرا! ليس لأني لم أبك عليك يوما، كما لم أبك على أبي، بل لاعتقادهن أن ذلك سيشقيني أكثر جزاء ما سببته لأمي من آلام. أتعتقد أنت ـ باعتبارك ذكرا ـ هذا؟ أوليس في أمنيتهن لي غباوة؟ إني أرى أن الراحلين عنا..الراحلين إلى الأبد ـ لابسين الثياب المزركشة، ومتعطرين حتى أعمق ثنايا الجلد ـ يلقون بالنكات الطازجة عن انتخابات السلطة الفلسطينية، ويخرجون ألسنتهم للـ...للمقيمين هاهنا. "موتوا بجحيمكم..موتوا ألف مرة!"
أنا الآن لا يشغلني انتظارك ـ هن يعتبرنها خصيصة رجولية تضاف إلى صفاتي! ـ لأني قد ابتدعت نضالي.. أناضل من أجل نفسي. نفسي. حتى تبقى عيوننا لا تغمض أجفانها، ولا يقربها رمد، ولا يتراكم شمع الكسل في آذاننا. هذه كلمات أبي، هل تذكرها؟ إنني حقا أجبن من مسئولية ارتداء حلة أبي الكاكية القديمة، لذا تمهل قبل أن يقلقك ترديدي لهذه الكلمات النارية. لقد فهمتها كما أريد. سأحكي لك حكايتي مع النضال! أنا لست أقل منك كفاءة بأية حال من الأحوال! منذ حوالي الشهرين، طلبت منا معلمة الفصل التعبير بالرسم عن بهجة الدنيا لاستقبال فصل الربيع. رسمت الفتيات أشجارا مورقة، وزهورا بديعة الألوان، وسماء بلا دخان، وبيوتا غير متهدمة، وبساطا سهليا أخضر يمتد إلى المدى. لابد أنهم قد رأوا تلك الأشياء في أفلام الرسوم المتحركة! أما أنا يا أخي العزيز، فقد رسمتك مرتكزا على إحدى ركبتيك، ثانيا الأخرى بثبات على الأرض، قابضا على بندقية أبي. كنت تنظر نحو المدى، رغم رؤيتك الواضحة لأعدائك من حولك، ولم تكن ملامح الثائر الصلب تغطي وجهك، بل كانت ملامح المؤمِّل الطموح. كانت ملامح خضراء جدا.
أخت الربيع:
زهوة.

قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!