استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الاثنين، 2 فبراير 2009

مقال نشرته مجلة الثقافة الجديدة هذا الشهر عن الكاتب الكبير محمد المخزنجي

كان عرشه على الماء
نظرة على الأنساق المعرفية في مجموعة أوتار الماء لمحمد المخزنجي
أسماء شهاب الدين
ما من شك يعتري أي متابع للأدب المكتوب بالعربية في رقي المكانة التي يحتلها د. محمد المخزنجي في فن القصة القصيرة العربية، هذه المكانة التي نُحتَت عبر سنوات طوال من الدأب الصموت، والإخلاص الواعي، والرؤى الفنية والمعرفية المختلفة بل والمتجاوزة للسائد والمتاح في آحايين كثيرة. إن محمد المخزنجي هو الامتداد الجميل للرائد الكبير يوسف إدريس؛ لكنه ليس امتدادا استنساخيا، ولا هو ذلك الامتداد الذي يعتمد على التطور الطبيعي المنبني على مرورالزمن وتراكم الخبرات الأدبية بالنسبة لهذا النوع الأدبي المميز، وإنما هو امتداد ارتقائي تضمّن تناميا تطوّريا ـ في اتجاه الأعقد وظيفيا والأكثر جدلية ـ على أصعدة عدة منها اللغة، التقنيات الفنية، الانفلات من الأيديولوجي المحلي إذا جاز التعبير، والقضايا الكبرى التي أخلصت لها الأجيال السابقة إلى الإنساني بمعناه الأشمل .. الإنساني عبر الروح بنوازعها التي تتشابه في البشر كلهم رغم اختلاف الأجناس والأعراق، ميكانيزمات دفاعها، صراعاتها الداخلية العميقة، أفكارها الخاصة جدا، وتجاربها الذاتية، وصدماتها الانفعالية، والأهم من هذا كله الروح باعتبارها الوظيفة الأعلى للعقل الإنساني ومصدر عاطفته والمتحكمة في وجدانه. كذلك يخرج المخزنجي ببساطة من مأزق المجايلة بفضل ما أنجزه من مشروع قصصي. فالمجايلة تكاد تضع الكُتاب في ترتيب هيراركي يبخس البعض حقوقهم؛ بينما يضع البعض على رأس الهرم. بالإضافة إلى أن الفواصل الزمنية الصارمة تكاد تكون فكرة غير عملية ومجحفة إذا ما طُبقِّت ببساطة على المنجز الأدبي عمومًا، كما أن الدرس التاريخي يقول بأن الإبداع الجميل يتحدى الزمن.
لسنا هنا بصدد بيان يقرر تميز القصة القصيرة عن الأجناس الأدبية الأخرى، أو بعمق الرؤية فيها مقابل شمولية الرؤية في الرواية وغيرها من المقولات الصحيحة والتي للأسف لا ترد الاعتبار للقصة القصيرة في واقعنا الأدبي الراهن. إنما بين أيدينا هنا دليل ملموس على ذلك. لدينا كتابة جادة وجليلة في هيئة أدب حقيقي اتخذ من القصة القصيرة وعاءً له واتسع لأنساق معرفية شتى كانت الرواية تستأثر بها حصريًا كنتيجة لفهم قاصر لمبدأ الوحدة الفنية في القصة القصيرة. ارتبط هذا أيضًا ـ وبشكل غريب ـ بالأقصوصة أو القصة القصيرة جدًا التي استفحلت كصرعة أو موضة أدبية ألحقت هزائم صغيرة بهذا الفن الجميل. بل وبدا الأمر وكأن بينهما علاقة سببية مباشرة. ولطالما عزف النقاد على نغمة القصة القصيرة جدًا ومنحوها أكبر مما تستحق من تشريف نقدي، وهذا بالطبع لا ينفي وجود تجارب جيدة جدًا في هذا النوع لكنها قصة تعتمد تقنيات مكررة قوامها المفارقة ومخاطبة عقل القاريء عبر الخدع الصغيرة والألغاز والأحاجي لأن الغموض يعتريها في كثير من الأحيان. كما تجنح إلى تنميط البشر حيث لا يسمح قصرها بتعريف القاريء بأي تكوين نفسي مغايرأو حتى بناء جسدي للشخصيات كما لا تتسع قصة لا تجاوز الصفحة الواحدة في الغالب لطرح الشخصية عبر خلفياتها المعرفية لتبرير سلوكها ومواقفها العاطفية. إن مساحة العاطفة أو الخطاب الوجداني فيها اعتمد على اللغة المجازية بما تحمله من دفقات شعورية مما أفقده المصداقية. أزعم أن لحظة التنوير الأدبية هي لحظة تتضافر فيها العاطفة (التي يُصَدّرها الكاتب للقاريء عبر كشفه لدقائق الصراع والمآزق الشعورية لأبطال قصصه) والمنطق العقلي على حد سواء. إنهما ما يجعلاننا ـ بشرط كونهما مجتمعيْن معًا ـ نغير مواقفنا الفكرية على الدوام، وهو الغاية الأسمى للأدب. ويبدو الشكل المرن من القصة القصيرة ـ الطويل غالبًا ـ هو الملائم بشكل منطقي لإحداث التغيير أو التنوير، بل وتحميل الأنساق المعرفية كما في هذه المجموعة. من ناحية أخرى يبدو القول الذي مفاده أن المعرفة العلمية تخاصم الفنيات المتداولة وتثقل السرد، يبدو من قبيل المغالطات التي لا تنبري تدفع الأدب بقصدية نحو التجمّد والفراغ؛ كما أنها تفترض قارئا منقوص الذكاء وتهبط بمستويات التلقي المحتملة إلى الحدود الدنيا، ولنا في الأدب العالمي أسوة حسنة، وفي منجز القصة القصيرة العالمية تحديدا ما يقيم الدليل على هذا المنظور. لقد كتب المخزنجي هذا النوع من القصة وإن أجاد فيها وتجاوز من كتبوه، إلا أننا نلحظ أنه في مجموعة (أوتار الماء) قد هجر هذا الشكل، وفي اعتقادي أنه قد فعل هذا بدافع تقني مشوب بتوابع مراجعة النفس عبر منجزها السابق. لقد كان يتبع عقله وقلبه.
يبدأ المخزنجي هذه المجموعة التي اعتبرها نقطة تحول في مشروعه الأدبي باقتباس علمي على غير العادة التي جرت بالبدء بسطور من الشعر أو نصوص من المنجز الأدبي السابق مثلا، وهو يحيلنا إلى نظرية الأوتار الفائقة وتعتمد فكرا فيزيائيًا جديدًا فيما يتعلق بالكيفية التي تشكل بها هذا الكون حولنا. تقول هذه النظرية من خلال معادلات رياضية معقدة أن الأشياء مكونة من أوتار حلقية أو مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات يتحدد بناء عليها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والالكترون وغيرها واضعة في حسبانها كافة قوى الطبيعة كالجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، وتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الأم. كما تحيلنا بطبيعة الحال إلى عنوان المجموعة أوتار الماء ويرمز الماء هنا إلى الأوتار الفائقة التي كانت ساكنة قبل خلق الكون ثم وضع سبحانه وتعالى الحركة بمطال كبير في نقطة من الأوتار الفائقة التي تملأ الفراغ وعند الانفجار الكبير توزعت الحركة من النقطة إلى النقاط المجاورة وتولدت المادة والطاقة والله تعالى يقول قبل خلق الكون: "وكان عرشه على الماء" ويقول أيضا في كتابه الكريم: "وجعلنا من الماء كل شيء حي". إنه مستهل لبداية الكون ومادة الحياة كلها.
لا يتوانى المخزنجي عن طرح المعرفة في قصص المجموعة كلها ولا يمكننا أن نتجاهل مهنة المخزنجي فهو طبيب بالأساس، وليس أي طبيب. إنه متخصص في الطب النفسي وهو من أكثر فروع الطب إثارة للجدل، ولعل الأطباء كلهم يعرفون ما يمثله اختيار الطب النفسي كتخصص من تحدٍ لذواتهم إذ أنه يتطلب مهارات تواصلية عدة وعقلا منفتحا، وثقافة واسعة وكلها أمور شكلت أنساقه المعرفية خلال الكتابة. جدير بالذكر أن المؤرخ الأمريكي جان جولدشتين أكد ـ معتمدا على فهمه للغة كإنعكاس دقيق للواقع المعيش بشكل أساسي ـ على أنه في فرنسا بدأوا في استخدام تعبيرات مثل home special أو الرجل الخاص أو الاستثنائي ليصفوا ذلك الطبيب الذي يتخصص في فرع من فروع الطب مثل الطب النفسي. ألا ينطبق هذا على المخزنجي وكتابته بشكل أو آخر؟ لنقرأ مثلا هذا المقطع من قصة "ذلك الوميض": "واصل يقينه في اللامعقول تحت سماء الليل وهو يري الزوجين يهيمان بقربه، أراحهما البوح كثيرا فاستعادا الكثير من عافيتيهما اللتين انهارتا بعد الموت الذي اختطف منهما الطفل في شهره الثالث، كانت انفاسه ووجهه الوديع النائم في النهار حصاة تسند تداعيهما المؤجل، وجاء موته الباكر ليجعلهما يتداعيان في جمدة كتمثالين من الشمع، ولولا أن اكتشف جيرانهما غيابهما الذي امتد خمسة ايام كاملة لقضيا من العطش والجوع وهما في هذه الجمدة، كانا في حاجة لمن يصدق ألمهما الخارق لكي يواصلا ما تبقي لهما من حياة، وكان هو من صدق ذلك وإن متأخرا، لم يخرجهما من الجمدة بنوبات التشنج التي تحدثها الصدمات الكهربائية، ولم يستعمل معهما مضادات الذهان الساحقة، فقط صدق ألمهما، ولم لا، لم لا تكون السنوات العشر الطويلة مع القطط كأطفال بدائل قد صبغت نفس الأم المحرومة من الاطفال بطابعها، وعندما حملت انصاع الجسد لخبيئة النفس التي لم ترتو اشواقها إلا ببنوة القطط، جاء المولود بعيون في شبكتيها مزيد من الخلايا العصوية الحساسة للضوء وخلايا التابيتوم التي تركز النور وتعكسه وهجا فسفوريا كما عيون القطط في الليل، يالهذا الليل".
على أن المستوى الأعلى من التأويل يكشف عن موقف مضاد للتنميط الذي يستند إليه الطب النفسي الذي يضع المعاناة النفسية والعقلية في إطار طبي ويفترض للقضاء عليها حلولا طبية (الصدمات الكهربية، مضادات الذهان الساحقة) بل ينظر إلى الأمر باعتباره أسلوب حياة اختاره الفرد أو أن يد الله قد وضعته في التجربة حتى يخرج من خلالها بخلق جديد، أو إبداع مثمر أو اكتشاف قيم للإمكانات الخفية في ذاته. نلاحظ أن الطبيب هنا (والذي يواصل يقينه في اللامعقول) لم يفعل غير تصديق ألمهما، وياله من علاج! يردني هذا للمدرسة المضادة للطب النفسي والذي يتبناها البعض والتي دوما ما تقدم فلسفة ممتعة وجميلة على حد قول د. أحمد عكاشة الطبيب النفسي الشهير، لكنها لم تجد الحلول على أرض الواقع، وإنما في أدب المخزنجي. لا يهمنا الواقع في هذا المضمار لأننا لا نحكم على الأدب بمدى اقترابه من الواقع أو بعده عنه، وإنما بما أقنعنا به وتعاطفنا معه كما أشرت.
في قصة رنين أوتار الماء، يواصل المخزنجي محاكمته للطب النفسي من خلال إحدى أهم وأعقد ظواهر الذهان المعروفة وهي الهلاوس السمعية، يقول المريض مخاطبًا طبيبه في رسالة: "'‏ أتذكرك بشدة فأنت طبيب من اثنين بين عشرات الأطباء الذين عرضت عليهم حالتي ووضعتما احتمالا مختلفا لتفسير الأعراض التي كنت أنا نفسي أظنها بوادر جنون كانت حالة مدهشة لرجل لا يستحم ولا يغتسل ويمتنع عن الطعام اكتئابا عندما تمطر. الرجل الذي اعتاد مع انطلاق الماء من صنبور أو أي مصدر آخر أن يسمع بكاء أطفال وعويل نسوة وانتحاب رجال وأصوات مبهمة صارخة تتلاحق مفزعة‏.‏ كلهم شخصوا حالتي ضمن دائرة الفصام وقالوا عن الأعراض أنها هلاوس سمعية‏.‏ وقد سألتني أنت مرة السؤال الذي لم يوجهه لي طبيب آخر‏:‏ وماذا تظن حالتك كيف يمكن أن تفسرها يومها لم يكن لدي تفسير لكنني كنت متيقنا أنها ليست هلاوس‏.‏ إنها أصوات حقيقية أسمعها".
وإذا كان الطب النفسي يضع الهلاوس السمعية في خانة المرض، فالمخزنجي يضعها في خانة التجربة المثيرة، وهذا ليس بجديد أو مستبعد على الفن، ففي فيلم الحاسة السادسة لبروس ويليس، يعاني طفل في مرحلة ما قبل المراهقة من هلاوس سمعية وبصرية ويشخصه الأطباء بفصام مبكر، لكن وبالإنصات إلى هذه الأصوات يكتشف الطبيب أن الطفل يرى ويسمع استغاثات حقيقية لأناس أبرياء راحوا ضحية الجرائم أو الحوادث ويقومون بإرشاده إلى مرتكبي تلك الجرائم. هنا يتحول المرض إلى هبة أو موهبة أو إلى تجربة فريدة (يتوسل الكاتب بالتفسير الفيزيائي للصوت لتكوين أعمدة منطقية يستند إليها تعاطفنا مع بطله) تفضي إلى خلاص الروح كما في هذه القصة.
يسيطر الميتافيزيقي على الحدث في القصة الأولى "تلك الحياة الفاتنة". سيارة تدهس قطة، فيراها مكومة ميتة وفي نفس اللحظة يراها تفر ناجية، ويستخدم حسابات الروح في مقابل قوانين هذا العالم وتنتصر حسابات الروح عند الناس كلهم، زوجته التي نجت من النزيف مرتين، وكل الناس الذين يمشون في الشارع. هنا يخرج بالفيزيقي إلى الإسقاط العام مضيفا إقناعا على إقناع، ومقرّبا الفكرة لأذهاننا المندهشة من فرط المباغتة الجميلة.
في قصة "حقيبة بلون الشفق"، يضعنا أمام حالة ذهنية صوفية فريدة من الوجد والتجلّي، إنه يقنعنا بمعجزة بمنتهى البساطة. الديك يبيض! وقد صدقنا وتفاعلنا. يحكي قصة الحقيبة على لسان البطل الذي كان في العاشرة من عمره حينئذ أي ثلاث سنوات بعد بداية القدرة علي التجريد (وهنا بالمناسبة إشارة واضحة لمراحل نمو الأطفال كما بينها العالم السويسري جون بياجيه في نظريته السيكولوجية المعروفة) مستفيدا أيضا من رحلاته وأسفاره المهنية، وهذا نسق معرفي آخر في هذه المجموعة يستحق أن نفرد له مقالا منفصلا.
إن مجموعة المخزنجي هذه تزخر بخبرة حياتية اتخذت أشكالا وأنساقا معرفية بالغة الإحكام والتنوّع، وهي صادرة عن ثقافة تطرح التساؤلات وتعلي من قيمة الشك المنبني على معطيات العقل والوجدان في مقابل الركون إلى الخبرات المكررة والقريبة.

قصة قصيرة نشرتها جريدة البديل

عينة من دم سلمى شريف


مفاصل الباب تنادي الزيت استجداء، وأنا كنت أتجاهل دوما ذلك النداء لسبب أجهله. ظلمة لم اعتدها في مثل هذا الوقت من اليوم، في الثامنة مساء: وقت العمل أو وقت الاستعداد للعمل، فسلمى مثل عمال ورديات المساء وأطباء الطواريء تكدح بالليل. سكون تام ورائحة قلق خبيث، وجسد سلمى شريف مُسَجّى بوضعية عشوائية على الأرض. لم تمنحني الأباجورة الوحيدة بالصالة ما يعينني على إدراك أكبر. اندفعت نحو زر الكهرباء وضغطته.
رسم أحمر الشفاه القاني خطوطا هوجاء حول شفتيها. جفونها مغمضة ومنتفخة قليلا. كان سروالها التحتي ملفوفا ومحبوكا حول رقبتها، وعلى الجزء العلوي من جسمها تي شيرت قطني أحمر، وبين نهديها ـ في الوسط تماما ـ فطيرة من براز ثقيل.. براز بني آدم. ساقاها متباعدتان والنصف السفلي من جسمها عار تماما ومسوّد. بعض الكدمات كانت أكثر اسودادا كما موزة نزعت عنها قشرتها فسرعان ما أفسدها الهواء. اقتربت منها ببطء، فزكمت أنفي رائحة البراز الكريهة. رفعت ساعدها بالطريقة التي اختزنها كل منا في ذاكرته من جراء مشاهدة الأفلام المصرية. عاد ساعدها إلى مكانه بعد أن شدته الجاذبية الأرضية إليها. كان قلبي غير مصدق ومتشبثا بتفاؤل حذر كأنها تمازحني بمقلب مُحْكَم. ليست هي؟! لست أنا؟! هذا مستبعد حتما. أتكون بردانة؟ جلست أمامها على الأريكة الوردية انتظر حركة أنمل من أناملها. طرقعة أصبع قدمها الصغير، أو تنهيدة. وضعت منديلا ورقيا على فتحتي أنفها، فلم يصعد به هواء زفيرها ولو مليمترا واحدا، ولم يمص منه شهيقها شيئا. مرت ساعة. لا بد أن هذه جثة. لابد أن هذا الوجه الأزرق المختنق بالسروال التحتي هو لسلمى شريف، ولا بد أني معذب منحوس أفقد كل من أتكيء عليهم دون سابق إنذار.
لقد تمخضت نوازع الليل وسوءات النهار، الرغبات المختبئة في سيناريوهات أحلامها، الرمزية الكامنة في قلقها الدائم كحيوان ضار لا يشبع يفتش عن فريسة ربما يتلذذ بصعوبة اقتناصها والتهام لحمها عن: ضحية.. موزة قشّرها مجرم ما، وأفسدها هواء ثقيل.
ـــــــ
لم أجرب يومًا أن يشاركني أحد صحن طعامي أو فراش نومي أو بعضا من ملابسي أو قبلات أمي وأحضانها. في نعيمي وحدي كنت هانئا بحنان أمي التي كرست كل خلية في جسدها من أجلي حتى فاجأتها السكتة القلبية، وفاجأتني أنا أيضًا هكذا دون سابق إنذار كارتفاع في ضغط الدم مثلا أو إصابة حديثة بمرض السكري أو أي شيء يعلن عن خلل ما في جسمها.
نهشتني وحدة قاسية عميقة بددت نومي وصحوي وبعثرت دماغي. أصبح الشارع ملاذي، ومقاعد الكورنيش الحجرية هي كل ما أتمناه لراحتي بعد تجوال طويل على غير هدى، وبلا هدف غير إخماد كل الصور الذهنية لنا معا. كل أوقات حياتها التي تمركزت حولي، كل ثانية أدنت فيها بالفضل لها. لم أستطع إلا أن أظل شاكرا لها في محرابها، وألا أنظر لامرأة سواها! لكني سرعان ما أيقنت ان الوحدة تقطّر الهم، وجلسة المرء مع نفسه قد تؤدي إلى إنفجار دماغه. بدأ الجوع يقرص بطني. كان عليّ أن أعود لعملي بعد أن استنفذ فنيّو التمريض من زملائي كل إجازاتي وكل الحجج المقنعة لمداراة غيابي. بعد أيام قلائل، وأثناء إحدى حملاتنا للتبرع بالدم رأيت سلمى شريف لأول مرة. كنا نقف بسيارتنا بالقرب من ميدان رمسيس. كان يجب أن يراها الجميع لأن مشيتها المتبخترة قليلا بدت شاذة في زخم الميدان. كانت ترتدي بلوزة من الشيفون السماوي على بودي أزرق وجيبة كحلي ضيقة وقصيرة، وصندل أسود بكعب أعلى كثيرا من أن ترتديه إمرأة تمشي على قدميها بالقرب ـ قريبا جدا أقصد ـ من ميدان رمسيس. برغم ذلك اللون الذي صبغت به شعرها القصير، وبدا غير ملائم تماما للون بشرتها القمحية، وتبرجها الذي بدا ملائما أكثرلليلة ساهرة، كان في مظهرها ما يبث رسائل عن الحنان! وفي عينيها نظرة أمومية تشع بالطيبة. قالت لزميلي إنها تريد التبرع بالدم؛ لكنها تود التأكد أولا من صحة تعقيم الأدوات المستخدمة في ذلك.
ـ هو القمر بيطلع بالنهار؟! من عينيّ.
قالها بلهجة مسرحية ممطوطة، كم تكون المجاملات كريهة أحيانا! ابتسمت بخفة من يسمع تلك العبارات مرارا. تطوّعتُ بزرع بعض الطمأنينة في دماغها وأخبرتها أن الأدوات كلها معقَّمة، وتُستهلك أيضا لمرة واحدة. بدا أنها لم تفهم أو لم تطئن بعد، فقلت وأنا أضغط حروف كلماتي:
ـ يعني حضرتك كل متبرع نستخدم له أدوات مخصوصة ومعقمة، وبعدين نتخلص منها هنا، ولما يجي غيره نفتح له أدوات جديدة وهكذا.
أومأت برأسها إيجابا، فشعرتُ بالفخر بينما كان الطبيبان الملازمان لنا منخرطين في نوبة ضحك وهما يتطلعان إليها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها البارزة أكثر مما ينبغي من سير صندلها. ضرب أحدهما كفا بكف، فشعرت بأنها مثل كل الناس ينتابها الخزي أحيانا، فتفسح له المجال بدون مقاومة. قالت لي:
ـ خير إن شاء الله.
عادوا للتهامس والضحك من جديد.
ـ الاسم لو سمحت حضرتك؟
ـ آه.. سلمى.. سلمى شريف.
كنت أعرف أن اسمها "عيرة" كالصبغة في شعرها، ورموشها السوداء الطويلة المرفوعة عاليا نحو الحاجبين، وبعدما انصرفت أخبرني زميلي أن منظر صدرها أيضا "عيرة" بواسطة نوع من حمالات الصدر ذات الرفوف كما يسميه هو. يعتقد أيضا أنها ربما قابلت في مقتبل عمرها منتجا سينمائيا منحها هذا الاسم، وسلبها بكارتها.
ينسحب دمها ببطء. أرى على وجهها علامات مخاض صغير، تنظر نحوي، فأشعر بأنها تسمح لي أن آخذ منها ما ليس لها، وما لم يكن لها يوما ولكنها إن سئلت عنه، فستتحمل مسئولية التفريط فيه من أجلي!
تسمّر وجهها عند هذه اللحظة مسبلة العينين مستكينة الملامح كمن يصلي قلبه قبل جسده. تقبل على الله هرولة وكأنها تحج حجة. الجسد منهك ومصفّى، والقلب عامر مطمئن. لم تصورت أن عملا صغيرا مثل هذا يمكن أن يقرّبها من الله بهذا الشكل، فقامت بتأديته بكل هذا الخشوع الذي لا يليق إلا بما نود أن نقدمه لله؟
عدلت كم بلوزتها، وانصرفت. ركضت خلفها حاملا كوبا خزفيا عليه شعار وزارة الصحة والسكان، وأخبرتها أنه هدية للمتبرعين بالدم. ابتسمت فقط، واستدارت. بادرتها:
ـ آنسة سلمى.. الحملة هنا لمدة أسبوع.
ابتسمتْ بخفة. كنت أعرف أن هذه الخفة مفتعلة وزائلة كطابع حسن رسمته على ذقنها بقلم الكحل الأسود قبل أن تخرج للعمل. لو لم أكن أنا، لتركت ابتسامتها في قلبي شيئا من خيبة الأمل. عندما احتضنت خمسمائة مللتر مكعب من دمها الدافيء بين يدي، أدركت أن الدماء ـ حتى الدماء ـ تبث لي رسائل منها: خذوا مني، فأنا على استعداد لأعطيكم بلا مقابل! ليس الدم مجرد بلازما وكرات دم حمراء وبيضاء. شعرت أني فككتُ الشفرة، وصوبتُ نحو هدف ما لأول مرة في حياتي. انتزعني صوت قهقهتهم العالية وجدلهم حولها من أفكاري: زميلي الذي لم يكن يعلم أن لي في هذا الصنف. الطبيبان الذان اندهشا لحرص فتاة ليل كما سمياها على ثواب التبرع بالدم، وخوفها من انتقال فيرس بي أو سي الكبدي إلى دمها! كيف لإمرأة تتلقى زبالة أجسام البشر، وانحرافاتهم الجنسية كل يوم أن يساورها قلق من سلامة تعقيم الأدوات؟!
الآن فقط يمكنني أن أجيب عنها. إنها تتعامل بنوع من القدرية مع إصابات العمل، أما غيرها من الإصابات فلا تقبلها مثلنا جميعا.
حضرت سلمى شريف مرة أخرى. بعد يومين تقريبا. تمشينا كثيرا لأنها كانت ترتدي حذاء مطاطيا هذه المرة، ولأنها رفضت أن نجلس في كوفي شوب. اشتريت لها ترمس وفول سوداني محمّص. لم تبد سعادتها بلقائنا؛ لكني كنت أعلم أنها ستأتي ثانية بيقين مثل ذلك الذي لا يتزعزع بأنه كلما غسلت يديك بعد اتساخهما بالقذارات، فإنهما ستعودان بيضاوين من غير سوء بعد غسلهما بالماء والصابون، وأنه لن يساورك بخصوصهما قرف، وستعيد استعمالهما مرارا وتكرار. كنت على يقين بأنها ستعود. عادت في آخر أيام الحملة، وعلمت أن ابتسامها الكثير الذي يذكرني بأمي هو كلامها نفسه، فلماذا أنتظر منها الكلمات؟.
بعد عدة لقاءات أخرى، أخذتني إلى شقتها بالمريوطية. تناولنا محشو ورق العنب الذي صنعته درية صديقتها. عندما أخذت أحكي لها عن أمي، نامت سلمى على أريكتها الوردية بسهولة وعمق.
لقد كانت سلمى شريف نافذة تسرسب لي صخب العالم الكبير نقطة نقطة، وكأني ابنها الصغير الذي ترضعه بشغف أم بكرية لبن السرسوب القيِّم من ثدييها نفس الثديين اللذين تأكل بهما، فأكتسب منها ما اكتسبته هي من معرفة بالحياة ومعاناة ورفض وصبر. نعم كنت ابنا ولم أكن زبونا. لقد تعلّمتْ من نعيمة أمها الروحية أن العلاقات المستديمة لا تثمر زواجا ولا فلوسا، وأنا لن أمنحهما لها. حتى الزبون إذا تعشّم أو "شكّك" مرة يضيع للأبد. علاقتنا كانت من نوع مختلف. اندهشت سلمى في البداية من إلتصاقي بها، وتعاطفي معها. حاولت أيضا في أوقات كثيرة أن تتخلص مني كما اعترفت لي فيما بعد. كانت تصيبني حالة قلق شديدة يتبعها صداع قاتل وقيء مستمر يجعلها تتراجع عن محاولاتها، ورغم أن حاجتنا للاحترام كانت مشتركة. كنت أخنقها بقلقي عليها وخوفي من فقدانها. حاجتي للثقة بالنفس التي لم تنفع القراءة في تنميتها أكثر مما هي عليه كانت هي من تستطيع علاجها بكلماتها المؤازرة. كنت أعلم أن الدنيا ستصبح صفرًا كبيرًا بدونها. بعدما تزوجت درية من سائق تاكسي في حادثة غير مسبوقة، صرت أعد لنا الطعام. كنت أرتب الشقة، وأهندم غرفة نومها تحديدا باهتمام أكبر، وأعطرها، وأغسل حمامها، وألمّع أحذيتها. أجمع الغسيل المتسخ وأقسمه إلى مجموعات حسب ألوانه وأقوم بغسله في يوم محدد كل أسبوع. استبقتني وكنت أحب أن تربت على ظهري بطيبة. في تلك الأيام التي تمتنع فيها عن مزاولة عملها، كانت تجلس على أريكتها الوردية أمام فيلم مصري قديم وكنت أجلس عند قدميها كهرة وديعة. عندما أعطيها رواية أعجبتني كانت دوما تردد: ماليش في القراية. بحب الأفلام القديمة بس. بتفكرني بيا زمان. حتى بتفكرني بنعيمة.
علمتها نعيمة قواعد مهنية ترجع إليها كل يوم من أيام حياتها العملية. وربما هي نفي القواعد التي هيئت لها علاقة مستديمة حتى وقت قريب برجل مثل عصمت. منها ألا تتبرج بفجاجة تلم عليها الذباب والذباب يمص ولا يدفع. الذباب أيضا هو أفراد الأمن المركزي والشرطة التي تلاحقهن عندما تشم رائحتهن. أن تكون سريعة ونحو الهدف. محددة أثناء التفاوض. مطيعة إلى حد كبير ولكن ليس بالمجان. كثير من التعري لن يفيد في البداية لأنها مثل موزة إذا ما نزعت قشرتها يفسدها الهواء ويعافها الأكّالة. تعلّمي وترقّي. نعيمة نفسها عرفت رجالا ذوي سطوة ونفوذ ومراكز مرموقة في المجتمع وأدركت أن الترقي ينجِّي ويحمي ويُشعر المرأة بالإنجاز! لم تقل لي أبدا لماذا تركت نعيمة هي وبدرية. كان فعلا ماضيا يجب أن نتركه في حاله.
اشترت بعض الأباجورات والوسائد، وقالت لي إن الشقة الآن صالحة لاستقبال الزبائن وأن هذا سيريحها ماديا ومعنويا. اضطررت لأن أستبدل كل نوباتجياتي الليلية مع أحد الزملاء مقابل مبلغ من المال من أجل الاطمئنان على سلامتها كل ليلة، وتيسير أمورها. كانت لا تحضر إلا من تثق بهم، وفي هذا تستعمل حواسها وبداهتها وخبرتها بالشارع والرجال لأنه من الخطورة أن تبني ثقة في نصف ساعة من التفاوض.
بعدها بأيام قلائل عرفت عصمت. لم يكن مختلفا عن الآخرين. رجل متزوج ولديه ولدان في سن المراهقة. لست أدري لم كان اهتمامها به يثير أكبر قدر من طاقة الغيرة لدي. لم يأتها لكمال فيها، وإنما لنقص فيه. كلهم يريدون ملكا ومملكة ومائة جارية في إمرأة واحدة تنصاع لرغباته الشخصية وقوانينه الديكتاتورية، وعليها أن تخلق المملكة وتمنح المُلْك له بالتزكية والمبايعة وتكون المائة جارية والرجل رجل في ذاته ومنذ مولده. لقد تناست دروس نعيمة ودفعها اهتمامه بها للاغترار والانسياق وراء رغبتها فيه. ربما لأرستقراطيته وشياكته كما قالت. ربما هو الحب بلا أسباب أو منطق. لست أدري. كنت أعرف أن تحت قناع الشياكة رجلا مثل كل الرجال يستأجر إمراة. الفارق الوحيد هو مدة عقد الإيجار فقط. هي تعلم أن حبيبة متفانية ومتخبطة في أمور العشق خير وأبقى منها، ومع ذلك كان الإعصار يجرفها إلى قاع سحيق. كان وسيما أيضا بشكل لافت للنظر، فكان مجرد تأبّطها ذراعه يمنحها قدرا لا يستهان به من الزهو والانتشاء . كما كان كريما يدفع أكثر مما نص عليه العقد. وكان يهديها أرقى مستحضرات التجميل والعطور التي يجمعها لها من سفراته إلى أوروبا كل حين. صارت أجمل؛ لكن عملها كان في تدهور. لم يطالبها أبدا بأن يقتصر الأمر عليه. لم تنتابه الغيرة على جسمها ووقتها مع رجال آخرين. لم يحبها أبدا. بالطبع لم أجرؤ على التصريح بهذا لها. أحاطت علاقتهما بأكبر قدر ممكن من السرية. لم أره سوى مرتين؛ لكني أدركت كم هو متغلغل في دمها. حقيقة صارت أجمل، وأكثر ألفةً وطيبةً معي أنا أيضا؛ لكن عملها كان ينهار. ذات مرة أرسلني أحدهم لشراء خبز وجبن رومي وبعض المخللات، وحين حضرت سمعت صوت استغاثاتها. حاولت فتح باب الغرفة. كان موصدا من الداخل. كانت تصرخ. أخذتُ أطرق الباب. لم يستجب لي وسمعتُ جلبة وراء الباب مباشرة. شد وجذب ودفع. أخذت أدفع الباب بجسمي كله مرة واثنتان وثلاثة. فتحه فجأة. كان الرجل عاريا، ومازال يمسك بحزام بنطلونه بيديه. استجمعت أصابعي في قبضة وهممت بتوجيهها نحو فكه. قالت من بين دموعها: ’سيبه‘. لملم الرجل نفسه وغادر. عرفت أنها كانت تضحك كلما لمسها. ضحكت كثيرا كثيرا جدا. صارت تضحك كلما هم بمجرد اللمس. كانت متعجبة للغاية مما يحدث لها، وزادت دهشتها من كوميديا الموقف، فسقطت من على السرير وهي مازالت تضحك. تعجّب الرجل وجلس على حافة السرير قليلا يمنحها بعض الوقت لتمالك أعصابها. كانت تحاول كتم ضحكاتها داخل فمها دون جدوى. أخذ الرجل يتأمل وجهه وجسمه في المرآة. لم تبد أبدا بالنسبة له إمرأة مجنونة. كان يجب أن تكف عن الضحك أو تجرب البكاء.
في مرة أخرى جاءت إلى البيت بقزم صغير يعمل كومبارس في الأفلام الكوميدي ومسرحيات سمير غانم. همست في أذني بأنه سيدفع كثيرا جدا. كان منظره مضحكا حقا برأسه الكبير وأعضائه القصيرة، وكان هو نفسه يشارك الناس ضحكهم عليه بأريحية. كان يحمل على كتفه شنطة هاندباج سوداء تخبط في ساقه كلما هرول أمامي. لم تشاركنا الضحكات وتمتمت وسمعتها: ’هو أنا يعني ح أنقي الشغل.‘ رفض بإصرار أن يفتح حقيبته أمامي قائلا لي: ’صدقني. أنا مُسْتَأنَس حتى بص!‘ ثم أخذ يؤذن كديك يحرس حظيرة الدجاج: ’كوكوكككككووووو‘. ضحكت، فضحك حتى انقلب على ظهره، وأخذ يركل الهواء بقدميه. تركتنا ودخلت إلى حجرتها، فاندفع وراءها.
انشغلتُ بتصفح الجرائد في البلكونة. مرت عليّ نصف ساعة، ثم تناهى إلى مسامعي صوت نهنهتها. فتحت الباب عليهما. لم يكن موصدا. كانت تجلس وراء البرافان محتمية بشرشف السرير، وكان هو في قمة التضاؤل والارتباك يرتدي على صدره بَافِتَّة كتلك التي تضعها الأمهات لأطفالهن الصغار كي ما تقي ملابسهم من الاتساخ. أخذ يلملم أشياءه ويضعها في حقيبته الهاندباج: رضاعة أطفال بها عصير برتقال. شخشيخة بأجراس وجلاجل. وبامبرز حجم كبير جدا من ذلك الذي يرتديه المسنون الذين فقدوا القدرة على التحكم في بولهم وبرازهم. كانت تبكي بمرارة وهو يرتدي حذاءه ويجاهد نفسه ليعود ويجبر خاطرها. قال لي عند الباب: ’موش عارف فيه إيه.‘ ثم تمتم: ’يا خسارة.‘ عندما تركها عصمت لأسباب لم تعلنها أبدا، أغلقت الحجرة على نفسها لأيام طوال. امتنعت عن الأكل والشرب والاستحمام. فقط كانت تدخن السجائر التي أدفع لها بعلبها من تحت عقب الباب. حين خرجت، كانت قد فقدت القدرة على الضحك والبكاء ومالايقل عن سبعة كيلو جرامات من وزنها.
لابد أني معذب منحوس أفقد كل من أتكيء عليهم دون سابق إنذار.
تزكم أنفي رائحة براز كريهة ورائحة موت. لا بد أن هذه جثة.
لابد أن هذه عملية افتراس.
لابد أن هذا الوجه الأزرق المختنق بالسروال التحتي لها، هذه الجثة المسودة كموزة عريانة هي لسلمى شريف.

قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!