استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الاثنين، 27 يوليو 2009

دجاج على الطريقة المكسيكية
قصة: أسماء شهاب الدين

بدأ الذباب في وضع بيضه على أسطح المرايا ـ مستعمرات صغيرة مقززة تضاعفها الخصائص البغيضة للمرايا المستوية ـ والأسقف، وأعلى الحوائط، وأسلاك المصابيح برتقالية الإضاءة، وكل تلك الزوايا التي تخفيها عني هذه الزغللة البصرية التي أصابتني مؤخرا. أشتمّ فوح بُنٍّ نشرته قفزة ذبابة في بحيرة نسكافيه ضمّتها جدران فنجان أبيض. يسيل لعابي مدرارا، وأكره سيلانه. مائة طبلة تُنْقَر بعصيٍّ غلاظ في نصف رأسي الأيمن. طعام متعفن بجانبي، وكل الروائح تجعل معدتي في حلقي.
هذه المرة عندما جرحت نفسي بنفسي كنت أرى لون الدم القاني، وأشم رائحته المغوية للقنّاصة، وأذوق طعمه المعدني على طرف لساني. لم يكن الطعم صادما أو حتى غريبا كوصفة طعام مختلفة ثقافيا عني. أليفا كان، لذا كانت ردة فعلي هادئة للغاية لابد أني قضيت معظم سنين عمري في محاولة للوصول إلى ردة فعل هادئة متكيفة قنوعة صبورة مُسَالِمة لاتحبس الأنفاس أو تصل بالدم إلى درجة الغليان، وأنا بهذا صرتُ اتميز بالسَوَاء النفسيّ كما أفهمه. هدفي كان دوما ردة فعل بهذه المواصفات. لم يكن فعلا ما أبدا. لم أتصور في الفعل لذّة غابت عني. الموسي حاد ونظيف، والدم دفيء.. دفيء جدا. لونه وطعمه ورائحته تجربة مميزة. إنه لا يثير فيّ القشعريرة وإنما يخمدها. يسكّن الجراح ويسرع بالتئام العريان منها. ألعق وألعق ولا أرتوي. في كل مرة نشوة وتحليق، ودفء يقتنص برد هذا الشتاء. كم أكره الشتاء. البرد قاس جدا يجوّف عظامي ويشقق جلدي ويفرض حظر التجول في كل الأماكن ليقبع الناس في مخابئهم الدفيئة أو التي يحاولون جعلها دفيئة، وأقبح ما في الشتاء لياليه. أنا أكره الليل بصفة خاصة.. في الليل ينبغي أن أنام وأنا لا أستطيع. تظلم الدنيا وأنا أجد صعوبة في تمييز الألوان حينها، وتتعاظم أصوات الأفكار في أذني، وتصبح كقرع الطبول، وأنا لا أرغب في الرقص أو مجرّد الحركة. يصبح البكاء سهلا وأنا لا أريد، ويأتي ’عارف‘ وأنا لا...
أنهض بأحمالي من سرير غرفة النوم وأتجه إلى المطبخ. أضع ملعقتين من زيت الزيتون في إناء من التيفال حتى يقدح ثم أضيف بصلة متوسطة الحجم مفرومة فرما ناعما، ثم حبة صغيرة من الفلفل الأخضر الحار المفروم بعد نزع البذور منها، ثم ثلاث فصوص ثوم مفرومة فرما ناعما أيضا، وأقلبهم جميعا على نار هادئة حتى يصبح البصل طريا وذهبي اللون. حينها أضع دجاجتي الجميلة المقطعة إلى ثمان قطع، وأحرّكها مع المزيج لدقيقتين ثم أضيف عصير ثلاث حبات كبار من الطماطم وقليلا من الماء أو المرق والملح والفلفل الأسود المطحون ورشة من الكمّون ومسحوق الزنجبيل، ثم كوبا كبيرا من الماء أو المرق وملعقتين كبيرتين من معجون الطماطم، وأطهي على نار هادئة. هل أخبره أن أمامي ساعة من الإعداد؟ أقف مكاني وأسمع صوت جريان الماء في البالوعات، وحركات ’عارف‘ بين غرفة النوم والمكتب. أجاهد رغبة ما في كسر طبق ما. أغرفها ساخنة في طبق التقديم بعد أن أجاهد رغبة أخرى في تقديمها في نفس الإناء التيفال الذي طهوتها فيه. أتخلى للمرة الأولى عن تزيين وجهها بالكسبرة الطازجة. مازالت بعض قطرات الدم على ساعدي. أجري للحمام. يطلبني للطعام، فأعتذر. ينهض ليحاول رؤيتي عن قرب لأني رفضت تناول طبقي المفضل: دجاج على الطريقة المكسيكية. وصفة أخذتها من غلاف إحدى منتجات مرقة الدجاج الفورية منذ سنوات عدّة، وكان إعدادها يمنحني البهجة بجانب أشياء أخرى، وكانت البهجة تصل إلى ذروتها حين نتحلق حولها في سكن الطالبات في المدينة الجامعية مدججين بالشهية المفتوحة والضحكات. باب الحمام مغلق بالترباس.
"كُلْ أنت ياعارف."
ساعة أخرى في الحمام. أخرج وعيناي شبه مغمضتين. لم ينم بعد. أدخل إلى السرير على أطراف جلدي. أتذكر أني قد نسيت أن أفرش المشمّع البلاستيكي العازل تحت الشرشف القطني الوردي. تخيلت نفسي أحمل مرتبة السرير القطنية وحدي وأحاول وضعها على سور التراس في مواجهة أشعة الشمس. ستحدق الجارات بفضول في دائرة البول الطازجة وسط الدوائر القديمة عتيقة الإصفرار. اللاتي لا يعرفن سيرمين آذانهن في محاولة لالتقاط بكاء طفل، أو يزرن البلكونات من وقت لآخر ليشاهدن حبو طفل أو لعبه، واللاتي تعرفن ستقطّبن حواجبهن وسأخجل. أخجل منهن ومن خيالي لأني أشعر به يقرأ أفكاري. دوما تخيلته يمتلك كل المواهب المعرفية التي يمكن لعقلي أن يحصرها.
"سلوى"
أنا لم أرزق بأطفال. أنا لا شيء بي، و’عارف‘ أيضا.
"ها"
زمان كنت أصدق الأدب وأفلام السينما. إن ماستر سين، أو جملة ماستر يظل يتذكرها الناس، ويرددونها بتلذّذ هي هدف في حدّ ذاته. كنت أجمع مثل تلك الجمل في دفتر خاص، وأظل أقرأها وأستمد منها القوة النفسية لأسبوع على الأقل.
"هل تودين زيارة النرويج؟"
تقصد زيارة الغرف المغلقة لفنادق النرويج. الغرف المغلقة هي الغرف المغلقة في كل مكان.
"مؤتمر؟"
"المؤتمر السنوي للجمعية العالمية للمتخصصين في علم الحيوان"
درست مثلك علم الحيوان في الجامعة، لكنه ليس ضمن اهتماماتي الآن.
"متى؟"
"في خلال أيام قلائل، سألقي ورقة بحثية عن الهيرودو ميديسيناليس"
ماهي القوة النفسية يا ’عارف‘؟! إنها أنت وما تفعله بالضبط ، وليس أي شيء أو أي أحد آخر. لا أصدق العلاقات الجنسية في الروايات. لغة عظيمة؛ لكن الفعل! الفعل ككوب من النسكافيه البارد تخثّر الحليب فيه.
"ها"
"العلق الطبي ياسلوى، لا يمكن نسيانه"
الجسم يتكون من عُقَلٍ، الخمسة الأولى منها تحمل خمسة أزواج من الأعين، أما بقية العُقل فيحمل كلا منها صفّا من الحَلََمَات العُقلية لها وظيفة حسّية. يوجد أيضا ثقوب نفريدية وإست وفتحات تناسلية مفردة، ووسطية على السطح البطني. تلميذتك النجيبة يا بروفيسور. كيف يكتب الأدباء ممارسة تناسلية حميمة بين أنثى وذكر العلق الطبي؟! أو بالأحرى كيف تستمتع خنثى العلق الطبي بنشوة التناسل؟ هل تكون مثل كوب النسكافيه البارد الذي تخثر الحليب فيه؟
"نعم.. العلق الطبي"
في هذه النقطة بالذات يحلّق الأدباء بالمجاز والاستعارات والكنايات، فتصبح الأمور نسبية ومائعة جدا. وفي النهاية غير قابلة للتصديق أو التطبيق.
"أنا أُفَضّل مصر في هذا الوقت من العام"
لابد أني أمزح، ولابد أنك ستتجاهل أني أمزح.
"اعتقدتُ أنك عندما طهوتِ هذا الصنف من الدجاج، سيكون مزاجك رائقا وتقبلين السفر معي."
عندما أطهو الدجاج على الطريقة المكسيكية أكون قد قابلت رجلا يفتح شهيتي للطعام بعد أن يكون قد نزع عن رأسي طاقية الإخفاء ليراني كائنا جميلا ولو للحظات. أدلف معك إلى السرير بدافع تعويضك عن خيانتي لك المتمثلة في سماحي ـ أنا أيضا أكون قد تورطت بعض الشيء ورفعت لذوقه الطاقية إعزازا وإجلالا ـ لرجل غريب بلمس طاقيتي وهي كما تعرف جزء لا يتجزأ مني. عندما أدلف معك إلى السرير، يبدو مزاجي رائقا. أما إذا كنت تلمّح إلى المزاج باعتبار أنك نفذتَ إلى عقلي الآن، وشممت، أو عرفتَ أمر علي وأحمد وسيد وأسامة وتامر وأشرف وجلال. سأخرج لساني في وجهك وأقول لك لايهمني. أنا على صواب. مجرد لمس الطاقية ليس خيانة حتى لو أمتعني.
"عندما ازدادت معرفتي بالطعام، أدركت أني كنت أعيش في وهم كبير، فلا يوجد في هذه الوصفة حقا أي من المكونات والنكهات المكسيكية الأصيلة والحارة. الدجاج على الطريقة المكسيكية كما أطهيه وصفة تافهة فقدت تأثيرها السحري".
" هل أنت بخير ياسلوى؟"
"على المستوى الجسدي: يقل محيط خصري ثلاثة سنتيمترات كل ستة أشهر، ويقل طول قامتي خمسة سنتيمترات كل سنة. كما يقل وزني سبعة كيلوجرامات كل عشرة أشهر. على المستوى العقلي وصلت للسواء النفسي."
"هل نذهب للطبيب؟"
بدأت في اكتشاف هذه المتلازمة العجيبة عندما قابلت عليّ.
آلو. أنا عليّ ياسلوى. لم أكد أصل منزلي. لاوقت نهدره. لماذا أثق برجل التقيته منذ ثلاث ساعات. القلب العطشان يرفع الراية البيضاء سريعا. كلامك يخجلني. الرجل طفل كبير. هل تعلمين؟ اغفري لي. الرجال يتجاهلون حقيقة أن النساء سئمن التعامل مع الأطفال. نحن لا نحب تحمُّل المسئولية فهي تصيب جلود وجوهنا بالتجاعيد. أي نوع من الرجال زوجك؟ زوجي لم يستعر من عالم الطفولة شيئا سوى تبليل الفراش. لست أفهم. لايهم، أي نوع من النساء زوجتك ياعلي؟ لن تفهمي. إذن لماذا أنا؟ ستصبرين حتى أنتهي يا سلوى؟ بالتأكيد. كنت ترتدين بلوزة من الشيفون الوردي وتنورة واسعة جدا تشبه حقا تلك التي يرتديها راقص التنورة. كأنها بساط الريح الطائر قماشه من حديقة ورود تفترش لونا ورديا رائقا وتتحرك ساقاك تحتها بسرعة، وحرية، وبشكل خفيّ. كان المكان ضيقا والجلوس يشكلون حلقة والكرسي الشاغر الوحيد الذي يناديك كان بجانبي. لم يكن لك رائحة ظاهرة. حين جلست كانت تنورتك قد غطت حذائي وبنطلوني. كنت تلبسين صندلا منخفضا من سيور رفيعة يحتضن قدمين بأصابع مضمومة وأوردة زرقاء تتلوى على سطحيْهما بشكل مثير. رأيته فقط حين كانت رجلاك تتململان أثناء الجلسة التي امتدت لساعة كاملة قبل أن تبدأ مراسم توقيع الرواية فعلا. الغريب أنك طوال الجلسة لم تحاولي أن تأخذي تنورتك إليك وكأن علي أن أتحمل كل هذا الحيز الذي تشغله في الفراغ رغما عني. غريب أيضا أنك كنت تقرئين في كتاب آخر. لم تنتبهي لي وأنا اتطلع إلى وجودك كاملا. فجأة بلا مقدمات نظرت نحوي. كان يمكن أن تكون مجرد نظرة من بين ملايين ملايين النظرات التي يتبادلها البشر كل يوم لكن عيني قالت لك تمهلي قليلا لقراءتي أنا. أنا موجود. التقطت الرسالة، فتحولت ملامحك البريئة إلى التعجب، ثم إلى الفضول، ثم إلى الاستسلام. أعرف تماما متى بدأ التواطؤ. حين مررت بعينيك على وجودي كله على عجل. تشمينني. تستمعين لذرات جسمي الهامسة. تحفظينني لتستذكريني فيما بعد. فرحت لأنك قررت أن تبقيني معك قليلا، وربما أكون بطل أحلامك. أدركت أني أروق لك. نحيف بعض الشيء، هذا صحيح. شارب رمادي كث وشعر رمادي كثيف يناسبان نضوجك وخبرتك، وكلانا يناسب تجربة متأنية. لمست بحذائي طرف صندلك برفق، فارتبكت أعضاؤك. ابتسمت ربع ابتسامة. سقط منك كتابك. انحنيت بسرعة لأناولك إياه. أخذتيه ولمست أصابعك أصابعي. انشدّ جسمك كله على وتر الجوع. تنازعك الخوف والطمع والريبة وخيال اليقظة، وبان في ملامحك، فتيقنتُ أني قد رقتُ لك. أخيرا قالت عيناك: ’لاتتركني. خذني معك‘، وتنهد الصياد العجوز الصبور بارتياح.
" سلوى.. سلوى"
" ها؟"
" هل نذهب للطبيب؟"
المثير في الخيانة ليس الفراش الجديد. ليست الروائح والمشاهد الجديدة. ليس طهو الدجاج على الطريقة المكسيكية. المثير هو الطريق إليها، فهو دوما مفروش بالخيال والآمال، وملوّن بفانتازيا متفرّدة يؤلّفها الخائن على هواه. إن جميع الاكتشافات التي يؤدي إليها طريق الخيانة ليست مثيرة على الإطلاق لأن الجميع معتور بالتشوه والقصور. هل يظن أحد أن الخيانة ستنجّم وتزيل التراب عن المعادن النفيسة؟!
عندما نظرت إلى أعضائي التناسلية، وجدتها قد ضمرت. ماذا لدي لأهديه لرجل مثل علي؟ لذلك انتهى علي.
" هذه حمية شاملة لا يدري عنها الأطباء شيئا."
" ألا تثقين في العلم؟!"
أخطر ما في هذه الحمية أنها قد تؤدي إلى انقراض أي إمرأة تمارسها. نعم أريدك حائرا هكذا. كلما تكلمتُ أكثر كلما التبستْ عليك الأمور.
تامر كان يعمل في تلك المغسلة التي اعتاد عارف أن يغسل فيها بعض ملابسه وينظف بدله الكثيرة تنظيفا جافا. كنت قد بدأت آخذ لون لحاء الأشجار حين أقترب منها، وأتماهى مع نقوش أقمشة تنجيد كل المقاعد التي تلمسها مؤخرتي، وأمر مرور أكرم الكرام على ما حولي فلا أثير في طريقي غير نسمة هبت عندما حركت فراشة جناحها، ولا يسمع لخطواتي وقع، وإنما هو صوت مكتوم كحفيف وريقات خريفية بائسة تتدحرج على الأرض. كان تامر في كل مرة يفتح باب سيارة عارف ويقول لي برقة: "سلام عليكم" وكأنه يستئذنني، وكأنه يراني. لا أحد يراني. لا بد أن كل رجل رآني تمتع بما يشبه الحاسة السادسة! عندما أرد عليه، يبدأ بتعليق الملابس في شماعة السيارة بجوار المقعد الخلفي بحرص بطيء. أشعر بحرارة جسمه، فينشد جسمي كله على وتر الجوع. أتابعه حتى يعود خلف الكاونتر. كل شيء في جسمه كان قويا ومستديرا ماعدا أحباله الصوتية. له صوت مرتبك وخفيض خاصة في التليفون حتى عندما يجيب عن سؤالي المتكرر: "هل تستعملون الماء في التنظيف الجاف؟".
"سلوى.. سلوى.. أنت غير طبيعية بالمرة."
قناة الولادة عند أية إمرأة هي قناة الخيانة، أما عند الرجال فقناة الخيانة هي مجرى البول.
"لقد انغلقت قناة الولادة عندي يا عارف."
"لا أريد أطفالا إذا كان هذا قدري."
"أنا لا أعرف ما أريد تحديدا."
"لماذا تبكين يا سلوى؟"
قام عارف واتجه نحوي. أمسك بيدي. منذ متى توقف عن لمس يدي؟ كان ملامح وجهه تعكس فضولا حقيقيا وتعاطفا. سألني عدة مرات عن سبب بكائي.
"صداع نصفي شديد."
جلال. دكتور جلال بالذات تميتني ذكراه وتدفعني لهذا البكاء الأخرق. لأنك تراه كل يوم يا عارف. لأنه في مثل عمرك. كان لزاما عليه أن يتحلى بالمهارات الاجتماعية ليجتاز المسافة إلى ذكائك لينافسك على رئاسة القسم. لأنه يعرف كثيرا مثلك. لأنه يعرف أكثر مما يجب عن زوجتك. لأني عندما أكون في حضرة عطر جسمه اللطيف الصغير ينشد جسمي على وتر العشق والوله. عندما يتوازى كتفانا أشعر بأنه لي، وبأن كيانه كان ينبغي أن يكون قدري السعيد. لأن صوته أغنية. لأنه يحب طهوي وخاصة دجاجي على الطريقة المكسيكية ـ ياللمصادفة ـ لأني طالما أردت أن أخلع عن قدميه جوربيه لأعدّ شعرات ساقيه، وأُسْكِنُ قدميه وكل مشاويره في هذه الدنيا في حجري. أردت أن أتحسس استدارة بطنه الصغير، ثم أسكن سبّابتي في تجويف سرّته. أردته أن يكون الرجل الذي يبول على جسدي وشرشفي ومرتبة سريري إذا تطلب الأمر. لأن ذاتي كانت مسكوبة بين يديه، ولأنه كان مستحيلا. مازال جليلا، وجارحا، ومستحيلا، ومازال دمي يقطر من جراح أفعلها بنفسي. ليس سواء نفسيا هذا الذي أدعيه. بل غباء نفسيا ياعارف. كيف لا أبكي؟!
"أعرف كم هو مؤلم يا حبيبتي."
"ها؟"
"أعرف كم هو مؤلم الصداع النصفي يا حبيبتي"
عندما سمعتها ـ هذه الكلمة السحرية التي انقرضت من حديثنا منذ زمن ـ مزقني النشيج. تعرف كم هي مؤلمة كلمة حبيبتي منك! كم هو مؤلم دفاعك عن نفسك الآن!
"مؤلم جدا."
تحرك عارف نحوي حركة طفيفة، فالتصق جسمه بجسمي. اكتشفت أن عارف بجانبي على السرير. لم يكن بعيدا لهذه الدرجة. رأيت ذراعيه في الطريق إلى جسدي. أزهر بستان في قلبي، وشملتني نشوة. عانقني واحتضنني، فسكن عقلي، وذبت بين ذراعيه. تمتم برقة:
"أعرف.. أعرف."
حكّ بأصابع يديه فروة رأسي قبل أن أطلب منه! وتمتم ثانية: "أعرف. أعرف"، وأزاح خصلات من شعري عن عيني قبل أن أفعل أنا. قال لي: "لا تبك"، وكنت على وشك البكاء مرة أخرى.
"ما أخبار الصداع الآن؟"
هل تسأل لأنك لا تعرف حقا يا عارف؟
"أود أن أعترف لك بشيء. عدة أشياء صغيرة بخصوص... بخصوص الدجاج على الطريقة المكسيكية."
"أعرف. أعرف."
"هل تعرف؟"أومأ برأسه إيجابا، واعتصرني بقوة، فقبضت بعيني على اللحظة وأخذتها معي للنوم.

السبت، 18 يوليو 2009

مناقشة المجموعة القصصية (المنطقة العمياء) في حزب التجمع

يعقد حزب التجمع يوم 20 يوليو 2009 ندوة نقدية لمناقشة المجموعة القصصية (المنطقة العمياء) وذلك في السابغة مساء يوم الإثنين القادم ويناقشها د. أيمن بكر، ود. حسام عقل ويديرها الكاتب أسامة عرابي.

قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!