استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الاثنين، 28 يوليو 2008

من بنات أفكاري العزيزات

الدخيل
يحكى أن امرأةً أفاقت فجأةً على حقيقة أنها نضجت. عرفت ذلك من كدمات الخرطوم الغاضب لاهبًا فخذيها، حين أحبت رجلاً قليل الحظ؛ ومن آلام الطمث؛ ضريبة كونها أنثى التي تمزق أحشاءها غير المنشغلة بمهمة تكوير نطفةٍ صغيرةٍ ما، ومن كلمة "طانط" التي يصر الجميع على قذفها إلى مسامعها. قال الرجل المحبوب: ’أهديك كل ما أملك.‘
قالت المرأة المحبوبة: ’أحب أن أشاركك كل ما تملك.‘
لكن آذان الحيطان بخت فيهما شمعها اللاصق. وألقى الناس بالقمامة فوق رأسيهما من البلكونات العالية. وغضب أولو الأمر جميعهم كما غضب مترو الأنفاق، وإدارة الجامعة، وإستاد كرة القدم الكبير؛ وبعض الذين أسموهما فيما مضى أصدقاء.
ماتت المرأة وهي تملك روح الرجل. مات الرجل وهو يملك روح المرأة.
صحا الناس في اليوم التالي. كانت كل الأشياء قد فقدت ظلالها على الأرض. ليس لأن الشمس رفضت رؤية وجهها على أسطحها. وليس لأن الأشياء امتنعت عن التفكير في إمكانية أن تُشِع بذاتها، بل لأن الأشياء ماتت.. ماتت.
أعرف تلك المرأة، وذلك الرجل، ومعظم الناس قد سمعت بهذه الحكاية. تتمايز النهايات ولكن ديناميكية الشرارة الأولى تشرب من ذات النبع.
كارم كانت ترعبه عتبات الأربعين؛ لأنها قمة المنحنى البياني لعمره الافتراضي ـ حتى لو طارده هاجس العمر القصير جدًا واستقرار الرصاص الطائش في قلبه ـ التي يبدأ كل شئ بعدها في التيبس الرمي البطيء. كارم تخلص من هدايا العهد البائد، وتذكاراته الورقية، ولجأ إلى كونها المبارك. آلاء البيضة المسلوقة شاهقة النقاء وشهية الطراوة، زاهية الحواس. قال لها كارم:
ـ أنا يقينك الخاص الذي لا تتسلل إلى مسامه المُخَاتَلة، فخذيني.
أطعمته من جوع وآوته من خوف. كان كارم أخضر ساذجًا ولزجًا كجنين. وكانت آلاء تملك حضنًا رحبًا كأمٍ قديمة. وفمًا مملوءًا بالفراشات الملونة. رفض كارم وآلاء أن يموتا وأن تموت من حولهما الأشياء. بينما كنت أكابر للاقتناع بحياة الخسران المقنع. وأطعم ابني كراهية أبيه البعيد.. البعيد جدًا.
تنحسر العولمة عند عتبات شقتهما الصغيرة. فتذوب اتفاقية الجات، ومظاهرات سياتل. تتهاوى إعلانات الكوكا. وحرب الكواكب. وأخبار التشكيل الوزاري الجديد. وأزمات البطالة. وارتفاع الأسعار. وازدهار تجارة البانجو. كانت آلاء ترتدي ملابس فضفاضة قاتمة اللون. نبذ وجهها المساحيق؛ وكانت خطوتها منهكة. حين هاتفتني وشى صوتها ببواكير اليأس. ربما لذلك انتشى قلبي قليلا. تمنيت أن يحضرها كارم إليَّ. لم أره معها. سقط مني شيء. قالت هو في سفر قصير. طلبت منها انتظاري ريثما أفرغ من درس طلبة البكالوريوس. انزوت في ركنٍ قريب.
عيون كثيرة.. كثيرة جدًا كأكواب الشاي الحبر تتربص بها، وتشاركني أوكسجين الغرفة الضيقة. أجساد متلاصقة تقف بجانبها على سرير الكشف وفوق كتفيها، على المكتب وكراسي الغرفة القليلة. تخلع المرأة جلابية عن جلابية. يسقط إيشاربها فينتفش شعرها الأسود. أقول لها وأنا أحاول الإمساك بتلابيب الصبر:
ـ يللا ياستي.
تنظر في عينيَّ نظرة آملةً في شيء لا أعتبره شيئًا، ثم تقول برجاء:
ـ من غير ما أقلع.
كلهن يقلن ذلك. عقارب الساعة التي منحتها صباح ذلك اليوم عشرين دقيقة إضافية ترن في أذني. أقول:
ـ اللهم طولك يا روح. دول دكاترة زمايلنا.
تسحب قميصها الأسود الباهت على جسدها الطحيني. كانت ترتدي مشد صدر أسود ضمت جناحيه بـ"أستك" رفيع. ثديها الأيمن أضخم ما رأيت. ثبتت نظرتها عليَّ. أقول:
ـ جات على دي بقى.
انطلقت ضحكات مصطنعة من أفواه الطلبة. أخذت تعالج الأستك بتراخٍ. تعرت حتى سرتها. ظهرها كقوس لا ينتصر لشهوة عين، أو فتنة صدر. أوردة زرقاء انعقدت ما بين الثديين كتميمة خاسرة. حلمة غائرة. هالة غامقة. اختلست النظر إلى آلاء التي أخضعت نفسها، بالكاد، لاختبار التحمل هذا. أومأت لها برأسي. انفجر التوتر في ملامحها. قررت أن أهمل الفحص العام. سألتهم:
ـ بالانسبكشن كده. مين يقول؟
فجأة انتفضت آلاء ثم اندفعت للخارج. بسرعة. حاولت اللحاق بها. ذابت في صراخ الممرضات ودبيب الأقدام بالخارج.
بعض الأطباق المتسخة في الحوض. وبقايا طعام متعفن في الثلاجة. يقشعر بدنها للغبار الدقيق الذي يتطفل على الأثاث، وتابلوهات الحوائط. يضايقها الرمل المتناثر على السجاد. شعرت بأنها ربما نامت أكثر من اللازم. خارت قواها، فرقدت على السرير. سألت نفسها مباشرة: أين الوجع؟ لم تستطع إجابة مقنعة. قامت إلى الأطباق المتسخة. كسرتها وألقت بها في القمامة. تخلصت من بقايا الطعام المتعفن. حملت ملابس نظيفة ودلفت إلى الحمام وهي تذكر نفسها بأنها ما هي إلا ساعات قليلة ويزهر كيان كارم في أركان المكان.
ـ مجرد ثديين!
حاولت أن تقنع نفسها. أصبح الاستحمام في قسوة اعتراف مسيحي. خلعت ملابسها ببطء عقربي ساعة متجمدة. اكتسحتها البرودة. التقطت عيناها صورة سريعة لثدييها. نمت الكتلة التي استعمرت الثدي الأيمن قليلاً. نبتت بواكير الدمع في عينيها. ابتلعت ريقها بسرعة. همست "آه يا كارم". صنعت إرادة ما تملي على دماغها الكلمات:
"من أجل كارم".
استطالت أعشاب جسدها سريعًا. فرت قواها منها حين فكرت في ضرورة أن تمارس طقس اجتثاثها. حركت كرسي الحمام الخشبي تجاه المرآة بجانب الباب. تصعد عليه وترتفع بجسدها قليلاً. يرتكز ثقلها على مشطي قدميها الزرقاوين. ثدياها الآن في مواجهة المرآة. تبتلع شهقة صغيرة. تتحسس الكتلة الدخيلة بحذر. تغافلها دموع أغزر. ترفع ذراعيها عاليًا. يتنقر الجلد فوق الكتلة. تملأ آهاتها المخنوقة بمياه الدش الساخنة. يسري الوهن في دمها. تتكور على بطنها في ركن الحمام. تتلاشى صورتها.. عمرها. حقيقتها للحظات يتوحش فيها الخوف. يختلط نشيجها العالي ببخار الماء. ويعاودان النفاذ إلى مسام جلدها. يتهاوى هيكل النشيج شيئًا فشيئًا، فتطفو على سطح المياه الساخنة في أرضية الحمام.. يتكرمش جلدها. تتفتت أعضاؤها وتطفو.. تتجه مع مجرى المياه الساخنة إلى البالوعة في أقصى ركن الحمام ارتدت قميصًا حريريًا عاري الذراعين والظهر. التصق بجسدها الذي لم تجففه. شعرت بأن روائح الأيام القديمة لم تزل تلطخ جسدها. استلقت على سريرهما. لم تستطع أن تقرأ الجرائد أو تستمع إلى الراديو كما اعتادت. حاولت الاستغراق في نومٍ قصير.. السرطان طريق مقفر..جاعت شبابيك مخيلتها ورثاء النفس أحد حقوقها الإنسانية المشروعة. كل البشر يرثون أنفسهم. تهرش في رأسها بقوة، تنكش ما ركد من الشياطين الصغيرة.
تفرد جسدها بطول السرير وتحدق في لاشيء. فكرت في أن تفعل ما افتقر إلى زلزال ليتغير..مثلاً اسمها الذي لم تألفه حتى بين شفتي كارم وهو يحذف همزته الأخيرة.. يصعد به السلم الموسيقي ويهبط به السلم الموسيقي آلاء آلاء. ربما تبيع طاقم الصيني ليتمكنا من قضاء أسبوع بالغردقة. أو تشم حاجبيها وتزرع الكولاجين في شفتيها وصدغيها بما ادخرته مدة عامين لتتوه عن ملامحها المسرطنة. أول نظرة منها إليها كانت إلى أقفاص الروح من الداخل. صادقت المرآة منذ وقت قريب ومع هذا لم تعتد سحنتها قط. رؤيتها لها كانت تؤلمها بشكل مبهم وتدفعها لبحث عن أنامل فنان مبتدئ لتداعب المرآة! كارم! يقول لها أيها الوجه المقدس.. القديم، المسن، المجهد، الأثري، معتق الرائحة، المتشقق، مُعَكّر البياض. التميمة المقدسة التي لا يشترط فيها أن تكون جميلة أبدًا. بينما يخلق دماغه من حولها كل ذلك السحر الأسود اللذيذ! والآن، نظرة منها إلى أناملها تخبرها بأنها هَرُمَت سريعًا. سريعًا جدًا.
لن تختزل حذافير الروح والجسد وأغنياتهما في دمعةٍ كما اعتادت أن تفعل. كل ذلك الكلام الذي يفترش ساحة القول سابقًًا سيكتسب أهميةً عظمى. من المناسب أن تتذكر الآن أنسباء الدم، ويتذكرونها ربما لتمنحهم مادةً جديدة للرثاء. هل سيبكي كارم من أجلها؟ وهل سيجد امرأة أخرى يلجأ إلى كونها المبارك، ويهمس خذيني؟ وهل ستكون أنا؟ نامت بلا غطاء ولا هدهدة أو أحلام. لمس كارم بقعة الدم التي فرضت نفسها على قميصها الأبيض بروح الاستكشاف. سرى الصهد في أوصاله ونبت عرق على جبهته. أرادها أن تفيق؛ فمعرفته الناقصة بهذه الأمور أربكته وأجلت هواجسه قليلاً. لثم أناملها. فتحت عينيها. اختزلت حذافير الروح والجسد وشكواهما في دمعةٍ ودلفت إلى حضنه. كانت تحدق في أنامل كارم وهي تعامل أزرار قميصها بشرود وتفرد مساحة من البياض الخالص في عقلها، لا تشوبها فرحة روحها المُرَاوِغة التي تطاردها روح كارم باستماتة حتى تضمها ولا يجرحها أسى استقبالها لهذا التعاطف الديناميكي. تفلت منها ملابسها في خفةٍ. يبتسم في وجهها ويقبل جبهتها، فتبتسم ابتسامة جريحة. يضمها إليه محافظًا على المسافة بينهما حال العناق بين صدريهما. تهمس له أن هذا لا يؤلمها؛ وهذه المسافة بينهما حال العناق هي الوخز الحقيقي. يبتسم مرة أخرى قائلاً: "حاضر" التي تحبها منه وادعة. يضع كرسي الحمام أمام قدميها. يمسك كفيها فتجلس. يختبر دفء المياه. يفتح الدش، ويبتعد قليلاً. يندفع الماء نحوها. يغسل ظهرها بالصابون. تبكي عجزها. تتوه دموعها في الشلال الصغير لماء الدش وتتوه حمرة أنفها في عبث بخار الماء بكل ما في الحمام. تنزلق الصابونة من يديه وتستقر بين قدميها. تضحك. يقبلها عبر رغوة الصابون. يبتل روبه. تضحك ثانيةً. يُبعِد شعرها المبتل عن عينيها. تبتسم له، وتئد ابتسامتها حين تفكر في أن هذا لا يناسب من تسيح الخلايا السرطانية في أجسادهن. يرق لها. يرى أعماقها الآن شفافة متسامية السطح والكتلة رغم روحها التي حفلت بالكدمات.
بقوة أوفر يضمها ويسألها ضاحكا: هذا لا يؤلم حقًا؟!
ندت منها آهة قصيرة. هو لا يجيد تمشيط شعرها. رن جرس الباب. خدمة توصيل الطلبات للمنازل. أخذ يطعمها بإلحاح ذلك الطعام "التيك آواي" الذي يفتقر إلى جوهر الطعام، بينما تمنحه الإضافات روائح زاعقة وألوان فاقعة. شعرت بالامتلاء سريعًا.
هرولت إلى الحمام بغتةً. أفرغت ما في جوفها دفعة واحدة. شعرت بالطعم اللاذع لحمض الهيدروكلوريك المعوي في فمها. أخذت تعب من ماء الصنبور، بينما يربت كارم على كتفها. أعد لها نُعنَاعًا مغليًا وطبقًا مملوءًا بالعسل الأبيض. جاءتهما مهاتفتي في تلك اللحظة. كان صوت كارم خافتًا بلا حيوية، ولست أدري لم أشعر، دائمًا، بأنهما يملكان نفس الصوت. سألته عنها. لم أشأ التحدث معها، وقلت له: دعها تستريح. أخبرني بموجز سريع عن حالتها الراهنة. أخبرته أن يطمئن، وأن الأمر لا يتعدى نوعًا من الدلال المفرط. لم يرد. أنهى مهاتفتي بصرامة وسرعة بعد أن رشحت له طبيبًا جيدًا.
شربت النعناع المغلي، واستلقت على السرير في ظلمة الغرفة. اندس كارم بجانبها. كان يعلم أنها لن تنام الليلة. جاءه صوتها متسمًا بنبرة محايدة:
ـ حميد أم خبيث؟
صمت برهة ثم قال:
ـ الله يحبنا. هل نسيت؟
كانت تود أن تقول "ربما أموت" أو "ربما يستأصلون ثديي"، لكنها لم تستطع. كما لم تستطع أن تملي وصاياها وتطلب منه الاعتناء بنفسه. وضع ذراعه تحت رأسها. أغمضت عينيها. لم يندهشا لرؤيتي في عيادة الطبيب. ولم تنبذ كفا كارم أناملي التي وضعتها عنوةً بين قبضتيه أثناء انخراط آلاء في دوامة الفحوصات محاولةً تذكيره بأنه قوي!
لم يندهش كارم، أيضًا، حين انسحبتُ قبيل خروج آلاء. كانت يداه تعتصران كفها طوال الطريق بقوة. ربما كانت أكبر من تلك التي اعتصرت بها أشعة جهاز الماموجرام ثدييها. وحتى لحظة ظهور نتائج تلك الفحوصات، هل تتجمد أوصال الحياة؟ لم يستطع كارم سوى أن يسأل الطبيب مباشرةً: هل ستموت؟ أجاب الطبيب بجفاء: مستبعد. وسنتأكد عما قريب. لم يعرف كارم هل يبتهج أم يؤجل ذلك. ماذا يقول لآلاء حين تسأله عن اختلائه بالطبيب؟ حاول أن يبدو طبيعيًا. تحدث عن رداءة الطقس. وغرابة ملابس بنات الثانوي. وواجهات العمارات الرخامية. وألوانها الفسفورية البغيضة. كانت آلاء تفكر في تلك الأثناء في كيفية تحول ثدييها إلى مجموعة من الصور الملونة في يدي الطبيب. أو إلى قطعتين آدميتين تنصهر دهونهما في محرقة مستشفى ما. سمرت عينيها على امرأة زجت بثديها في فم رضيعها على الرصيف. ليس لأنها عاقر، بل لأنها كانت تريد أن تعامل ثدييها بهذه اللامبالاة. ها هو ثدي لا تستعمره خلايا سرطانية، ولا تحجر على حركاته رقابة من عيون المارة؛ لأن صاحبته لا تعتبره عضوًا جنسيًا، أو مكملاً من مكملات الأناقة الأنثوية الأساسية! فتحت آلاء باب الشقة. كانت الشمس حاضرة في المكان. نثرت الورد البلدي الأحمر والأصفر في كل مكان. خلعت ملابسها بسرعة وألقت بالقطن الطبي الذي ملأت به تجويفي شدادة نهديها في سلة المهملات. أجلت أعمالها المكتبية. أخرجت كيس اللحم المتجمد من الثلاجة. تحسست السجاد بحثًا عن حبات الرمل. لم تجدها. فتحت الراديو. انطلقت موسيقى راقصة. طالعت مانشيتات الجرائد، وصور المجلات النسائية. دلفت إلى الحمام وهي تذكر نفسها بأنها ما هي إلا ساعات قلائل ويزهر كيان كارم في أركان المكان.

قصة تناولها د. محمد عبد المطلب في كتابه بلاغة السرد النسوي

بيضة الديك
إن النساء أمثالك تعشقن الرجال أمثال بُرَعي أو أقوم قليلاً، لأن عواطفهن يعوزها كيان مضاد يتسع لها....أو تنفر منه....إليه. وهذا الكيان الوحيد ـ بطبيعة الحال ـ هو ما منحك إياه النصيب. برعي الذي جعل من عقله وأذنيه دلاء تضخ فيها أمه وأخواته البنات عصارة كيدهن. أجسادهن ثقيلة، عيونهن بنادق وحديثهن معجونٌ بالأسمنت.
برعي آثمٌ قلبه. يعلم جيدًا أن حيواناته المنوية هي التي تضن عليه بالولد؛ ومع ذلك يريده. يريد الولد!
أين هو الآن، وأنت تنوئين بتسعة أشهر حمل على سرير متسخ الملاءة في غرفة الطبيب الوحيدة هنا؟
تطردين تحفز روحية، الأخت الكبرى لبرعي، الموجه للجزء المنتفخ من بطنك وبناتك الخمس الباكيات لتحدقي في سقف الغرفة تحاولين تبين وجه الله....
ـ يا رب امنحه الصبي.
الصبي الذي قد ينور حياتك، حياتك؟! ملك المتسامرين على المصاطب تتلون برضاه وتكفهر بغيظهم..
تلصقك الانقباضات بعظم السرير؛ وتعصر غددك الدمعية. ثمة ألف قسوة في لحظة الخلوة هذه. تعضين شفتك السفلى وتتقافز الصور الرمادية أمام عينيك:
روحية تفتح ذراعيها فتحة تناسب مقاس جسدك المتشقق وتجعلك ترتمين في تفاصيل جسده وطرقعة نفاق قبلاتها في الفراغ بجانب خديك. برعي يهجرك في الفراش شهرين بعد الفتاة الخامسة. ثم روحية تقول:
ـ عاقر من لم تنجب الرجال..ديك في حظيرتنا الكبيرة!!
تقذفين بصرخةٍ ترج عراء الروح...
ـ ماذا لو لم يأت الولد؟
تموتين بالسكتة القلبية قبل أن يرميك برعي بثلاث طلقات بائنات نافذات؟! ينغرس في لحمك رصاص شماتة روحية وأخواتها؟ ماذا لو لم يأت الولد؟ أستنطفئ جذوة العيش، وينغلق دفتر عشقك لـ"برعي" الذي يقتات من طاقتك؟! هل كنت تضحكين حينها حقًا؟!
ـ يا رب امنحه الصبي هذه المرة.
ماذا تفعلين والبوح انهزام والذات أطلال وعناكب والمسافات بلاد الله خلق الله؟!
تصرخين صرخة كأنها مكابدة التكوين الأول. الغضب الراسخ في أعماقك يستنسخ من صرختك الأولى انفجارات عديدة...
يدفع الطبيب باب الحجرة أمامه وقد جاشت مراجله. يقذف في وجهك كلمات لا تحددين ملامحها. ويرفض تخديرك كليًا..
قبيلة تترية من الانقباضات طويلة ومتقاربة تنهش الجزء السفلي من ظهرك...تزحف إلى الأمام. إلى الأمام كالصراخ الذي كاد أن يثقب طبلة أذنيه. يصفعك بكف من الغيظ. تفقد الدموع حنجرتها. تشعرين بأن ما يسمى كرامتك يفترش الطريق الزراعي. يتبخر تشنج عضلاتك أمام ثورته، فيشكل الجسد النيئ مدفعًا يقذف هذا الذي يتمناه الجميع ذكرًا. ينبثق كبد بكر من ألمك...شعره كؤوس الذهب وعيناه في نقاء نيل لا تبخ فيه المصانع روثها، جلده يكشف كل أسرار دمه..
وأخيرًا تنهيدة منك مرتاحة ووردية تعلق بين الروح والجسد!
يتلقفونني بالبسملة ولزوجة القبل، يفعصونني بمحبة بدائية تجعل من ساعة الميلاد الأولى عذابًا صغيرًا.
حين وضعوني في التجويف بين ذراعيك وجانب صدرك الأيمن، رأوا فناجين الدم الزاحف على الملاءة.
ليتك تصرخين الآن، يا أمي!


الأربعاء، 23 يوليو 2008

رجل وإمرأة

رجل وإمرأة








وقالوا: "كبرت وينبغي أن تنتخبي لنفسك أحدا"، فكرت قليلا، ولكن تجاعيد المرآة لم تغلق عيني. دون أن يشعروا وضعوا قوانين هذا الانتخابات، لكنني تعلمت أن أقول لا حينما ينبغي علىَّ ذلك، فاخترت الرجل الذي لم ينتخبني لأقول له يا سيدي، أو أدلك قدميه في الماء المملح وأجيد معرفة طريقي إلى معدته ثم يفرغ في جسدي طاقته.
اخترت رجلا انتخبني لأني جعلت قلبه يرقص طربًا حين ولد على كفى ولأنة جعل قلبي يغنى حين خفقانه الطروب، فقلت له يا سيدي ودلكت قدميه ودلكت تعب قدميه في الماء المملح فذاب تماما، وعرفت طريقًا إلى معدته، وسكب في جسدي طاقة الحياة، فصرنا نخلة تساقط رطبًا وحنانًا كلما نظرها الرائي.



قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!