استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الأربعاء، 8 أكتوبر 2008

كنت في بيات رمضاني

بعضٌ من يومٍ وليلة

قلت لك من قبل إن البلاد مثل البني آدميين يأتي عليها زمان يسود فيه وجهها ويتكرمش جلدها، وتتكسر فيه أسنانها التي كانت حادة فيما قبل، وينحني ظهرها وتصاب بالألزهايمر، فتنسى الأيدي التي ربتت عليها بحنان يوما ما وتجرب التجوال بلا هدف والهلاوس ويصبح لديها انفعالات كارثية. هذه البلاد شاخت بعد أن تغلغلت خلايا السرطان في عظامها. غالبا ما يكون الاستئصال هو الحل.
ـ هل صدقتني الآن؟ قلت لك من قبل!
أوسخ شيء بالنسبة لي، والأشد عداوة ـ عداوة ضارية تفوق كثيرا ما في قلبي تجاه ذلك الحيوان الذي أنا بصدد الذهاب إليه ـ هو الشعور بالجوع.. جوع لا ينتهي. طيب هذا الحيوان عرفت كيف أتدبر أمري معه؛ لكن الجوع! مازلت أبحث الأمر. لو كان الجوع حيوانًا ضاريًا أو امرأة ...... لنسفته بالديناميت. لا يهمني في الفقر غير الجوع. أنت تعرف ذلك جيدا. لن أخسر كثيرًا إذا وضعت كتانًا أو حريرًا فوق جلدي. من صنع مصر أو الصين أو سينييه من أجل جسمي أنا تحديدًا. لا يعنيني سكنى القصور أو أن أخرج كما خرجت الآن من عشة في حارة في زقاق من زقاق من زقاق من زقاق من زقاق من زقاق من زقاق. أنا أستلذ باستخدام رجلي في كل الأحوال. أما عصافير البطن الجائعة هل تستطيع قتلها وهي منك؟! المصارين الهائجة التي تفرتك بعضها بعضا كيف تقضي على ثورتها بحل عسكري وهي قابعة بداخلك كحيوان لا يرضى بفرائسه ولايشبع. نعم يحدث هذا في حالة واحدة: الانتحار (على المستوى الفردي) وأنا لا أفضله، وعلى المستوى الجمعي: عملية تصفية هتلرية شاملة لكل الجائعين. أسألك ولا تهرب من إجابتي بصراحة: أولا يحدث هذا معي ومعهم رغمًا عنا جميعا؟
الجائع لا يرى بوضوح. غير مستبصر تقريبا. يحك وجهه طوال النهار وينام كثيرا. الجائع غير منتج. الجائع حاقد على ممتلئي البطون وحتى أنصاف الشبعانين. المجاعة كافرة، والجائع باختصار أوسخ إنسان طلعت عليه شمس.
هل هناك ضرورة لشراء تذكرة مترو قبيل الفجر بقليل؟ لا أرى غير بعض المراهقين الذين انتزعت منهم العافية وفراغ النهار رغبتهم في النوم. أفضل هذا الوقت دون غيره للخروج لأني لا أحب الشوارع المليئة بالعرق والأنفاس والعيون المتسعة بفضول كالفناجين. المصريون في الصيف يمارسون أغلب أنشطة حياتهم في الشوارع ووسائل المواصلات. لا أسمع خلال الرحلة من المرج حتى الدقي سوى صراخ الغربان في بطني. الآن دربت نفسي على تجاهل صوته المنكر الذي كان يهاجمني عبر التلفزيون والراديو وسطور الجريدة. بالتأكيد شعرت براحة؛ لكنها لن تكتمل بدون هذه الخطوة المهمة. خطوتي تهز الأرض لأن غرضي نبيل. ها.. ها.. ها. ستفهم هذه الأشياء فيما بعد. تعرف هذه البلاد أجمل الآن وربما هي بحاجة لأن تخمد أنفاسها هكذا طوال الوقت. البناية مميزة. مفتوحة؟ مازالوا يتركون الأبواب مفتوحة. رجل الأمن في زيه الفقير وبقامته الهزيلة يبدو صالحا للضرب على قفاه أكثر من أي وقت. البواب نائم. المصعد قد يثير جلبة. أستخدم رجلي. سيفتح الباب ببساطة قلبي يحدثني بهذا. من اعتاد جلب العاهرات يفتح باب شقته في عمق الليل ببساطة.
أعرفك بنفسي ياسيدي.. أنا الأستاذ جائع. لم أترك له فرصة للتحرك. لكمة في فكه الحليق بداية جيدة. يسقط أرضا. تدور عيناه في محجريهما عندما أعاجله بأخرى في خصيتيه. رغم كل الألم البادي على وجهه، تبرز بإفراط في ملامحه دهشة وتساؤل عن هويتي. أجيبه بلكمة أخرى. يتهاوى بشكل قد يكون نهائيا. خدعة لن تنطلي علي. أسرع لأنزع بعض الستائر المعلقة على الحائط وأنا أقبض على ياقته الحريرية وآخذ جسده معي. أجلسه على الأرض. أقيد يديه في رجل كنبة الصالون بالستائر المجدولة. وبسكين مطبخ صغير أحمله معي دائما أبدأ الإبداع. أتوانى برهة لألتقط أنفاسي وبعض حبات العنب وأستلذ برائحة الدم الطازج. لحم البشر حين يطهى لا يختلف كثيرا عن العجول البلدي شكلا ومضمونا. لا تفهمني خطأ. لم أقم بهذه الشناعة. لم أستعر مما يملك سوى بعض حبات العنب!
أغلق الباب بهدوء. طلعت الشمس بنفس اليقينية اليومية. اختفى نعيق الغربان في بطني رغم روائح الخبز الطازج في الأجواء. انظر لا أحب أن يقفز حاجباك فوق رأسك من الدهشة. تذكر أنك أنت من طلبت مني أن أحدثك عن يومي بالأمس. أنت مسئول تقريبا. رأيت صغارًا يحملون حقائب مدرسية ثقيلة على ظهورهم ويغمضون جفونهم بقوة في محاولة لتذكر ما درسوه. أضحك متعجبًا منهم، فيتعجبون مني. الناس تهرول وتهرول في كل الطرقات. مازال البعض يضحك ويأكل ويتصفح الجرائد ولا أحد منهم يعلم أني أحمل سكين مطبخ صغير. لا أعذرهم لجهلهم، لا أعذر أحدا. هكذا أصرخ فيهم فجأة: ’يا ركاب المترو لا أعذر أحدا‘. لم يلتفت لي أحد. قلت لك مرارًا إني اختبرت ذلك والنتيجة سلبية على الدوام، فمضيت في طريقي نحو رصيف ضواحي الجيزة وسط رجال جائعين يحملون عدد الرزق على أكتافهم، ونساء ترتدين جلابيب طويلة تستر كعوبهن المتشققة، ويمسحن فيها دموعهن ومخاط أنوفهن، ويقدن بها أطفالهن حتى لا يضيعوا في زحام المدينة.


من مجموعة قصصية جديدة قيد النشر بعنوان المنطقة العمياء

الأحد، 24 أغسطس 2008

عندما تحتجز الذات في زنزانة الطفولة الكارثية

وداعا أيتها السماء لحامد عبد الصمد... عندما تحتجز الذات في زنزانة الطفولة الكارثية

(وداعا أيتها السماء) الرواية الأولى لحامد عبد الصمد. ربما لأن الاسم جديد علي، أو لأن الرواية تنحو المنحى الأوتو بيوجرافي الذي يميز بواكير الكتابات الجديدة. والأوتو بيوجرافي (عندما يأتي في مستهل تجربة الكتابة) سلاح ذو حدين: إما أنه يعبر عن التجربة القريبة والمتاحة بسهولة، فيفتقر إلى التحليق واقتحام عوالم جديدة منتهيا بالدوران اللانهائي حول الذات. أو يقوم الكاتب متسلحا بالحياد والنضج العقلي بعملية الغربلة منتقيا لقرائه ما هو مختلف وخلافي في نفس الوقت. أعتقد أن هذه الرواية تقف بين هذين الحدين.
الذات هي بطل الرواية :
أنا لن أتعامل مع شخصية البطل في هذه الرواية على أنها تُقدّم جدلية فكرية جديرة بالنقاش أو داعية لإعادة النظر في مسائل الدين أو العقيدة، أو حتى إعادة البحث عن أجوبة لأسئلة عويصة، وإنما سأتعامل معها باعتبارها شخصية مضطربة نفسيا ومأزومة للغاية وعلى المستوى العلمي هي أقرب للشخصية الحدّية كما سأشرح لاحقا. إن ذات "شاكر" قد احتجزت في مرحلة سيئة من مراحل طفولته التي تأزّمت بفعل حادثتيْ اغتصاب ، قسوة الأب غير المبررة، سخرية الرفاق في المدرسة من لونه الأبيض وعينيه الملونتين وبالتالي خلع صفة "المرجلة" عنه، محاولة منه لاغتصاب أحد الأطفال الذي كان نائما إلى جواره ذات مرة؛ لكن القدر ألحق بها الفشل والحمد لله. بعبارة أخرى لقد علق وعيه في مرحلة بدائية ولم يفلح في النضج أو التطور لأن الذات فشلت في حل أزماتها والإجابة عن ما يؤرقها من أسئلة. هذه هي أزمات الطفولة الأوضح (وخاصة الانتهاك الجنسي) عند شاكر والتي ستبنى عليها الدينامية النفسية لشخصيته.
أول ملامح الدينامية النفسية هي الانشقاق Splitting حيث يقوم بتقسيم كل من حوله إلى من يحبونه ومن يكرهونه بما فيهم الله ذاته الذي قرر منذ البداية أنه لم يكن في صفه أبدا. فلنقرأ في الرواية ص 105:
ولأنني كنت قد مللت صمت إله السماء فقد جعلت من أبي إلها في الأرض.. ولأنني كنت أخشى أن يكون أبانا الذي في السماء مثل أبينا الذي على الأرض، فقد أضفيت على أبي صفات رب الخلائق.. وفي نهاية المطاف فإن كلاهما كان غاضبا منتقما ولا تؤمن جوانبه! أو يقسم الناس جميعا إلى طيبين وأشرار (الدنيا كلها يا أبيض يا أسود!) طبقا لمشاعره الذاتية غير الحيادية بالطبع وأفكاره الخاصة، وهي في ذات الوقت مشاعر متغيرة متقلبة وقد اتضحت بشدة في علاقته بأنطونيا المسكينة. أنطونيا التي رآها في مطار القاهرة جميلة، ومثقفة، ولديها لمحة أسطورية ما تتحوّل ـ دونما إثم ارتكبته أو تقصير ـ إلى كم مهمل لا يمثل أدنى قيمة بالنسبة للبطل. تصبح العلاقة عقيمة وخرساء أو كما يقول هو:" أقل حتى من الصداقة الباردة" حين يذهب إلى ألمانيا ويتزوجها.
ثانيا: الاسقاط Projective identification على هويات معيّنة: فهو يعزي الملامح الايجابية والسلبية (ويصنفها كذلك وفق تقدير مثالي خاص به يفتقر إلى النظرة الموضوعية) إلى آخرين ( أفراد أو المجتمع أو الله أو العقيدة) ويورطهم عمدا ـ على المستوى الفكري ـ في دائرته حتى يؤكد معتقداته الخاصة. الله يراهم وهم يغتصبونني .. تركهم يغتصبونني ..الله صامت... إما أن يكون غاضًبا علي أو غير موجود أصلا... أنا ضحية في كل الأحوال.. كلهم فعلوا بي هذا بما فيهم الرب إذا كان موجودا. نرى هنا أيضا وعيا طفوليا أو مختلا إذا ما حوكم في سياق الذات الآنية لأنه بهذا الشكل ستنتهي كل جرم على الأرض صغير أو كبير (سرقة موبايل من شاب مسالم يمشي في الشارع إلى الحرب العالمية الثانية) بنفس النتيجة.
ثالثا: تتجاور الحاجة إلى العدوان والتنفيس عن الغضب المكبوت مع الجوع الشديد إلى الفهم والحنان والعلاقات المستديمة وهما يتناوبان على هذه الذات.
رابعا: الخوف الشديد من هجر الآخرين أو الأخريات. يقول في الرواية ص 204: كنت أترك النساء بسرعة، ربما لأنني كنت أخشى أن يبادروا بتركي إذا علموا حقيقتي.
خامسا: الإنقلاب ضد أو على الذات إلى الحد الذي يصل إلى كراهية الذات واحتقارها بشدة.
أخلص هنا إلى أن شاكر بكل تساؤلاته وسلوكياته هو أقرب إلى اضطراب الشخصية الحِدِّّية والتي شارك في صنعها كل ما حولها لكنه ليس بريئا تماما لأنه لم يخلق خلاصه الروحي (رغم وجود الفرص) بالوعي والثقافة، السفر، والتلاقي مع الآخر، التجارب الحياتية المختلفة، الإيمان البسيط أو المعقد، الجزء الذي يقتنع به من الدين أو أيا كان، حتى التحقق على المستوى الاجتماعي "موش فارق معه خالص". اتضحت خصائص الشخصية الحدية في:
· وجود طراز مهيمن من توتر الذات وانعدام الاستقرار والثبوتية سواء على مستواها هي( لا الاسلام في صورته البسيطة أو الاخوانية، ولا الماهراجي راوات، ولا الصوفية، ولا الماركسية، ولا أي شيء جعل الذات في حالة سلام وتصالح مع نفسها) أو على مستوى علاقتها بالآخر ورؤيتها للعالم متراوحا بين حدي التقدير المثالي Idealization (الذي يحرم المرء من النظرة الموضوعية ويمنعه من فهم حقيقة الأشياء. في الرواية ص 32 يقول: أصبت بصدمة عندما عرفت أن بألمانيا أيضًا وحوشًا بشرية تختطف الأطفال البريئة وتغتصبهم...!! عملية الطهارة والتي يخضع لها كل الأطفال عبر عنها مثلا بوداعا للقضيب)، والتقليل من قيمة الأشياء Devaluation أيضا (والأمثلة كثيرة).
· اضطراب الهوية الدينية.(هل أنا مسلم؟ لا أعرف من أنا.... الرواية ص209)
· التهور والإندفاع السلوكي والذي ينطوي بشكل مضمر على تدمير للذات وكان واضحًا في إدمانه أفلام السكس ثم الجنس مع العاهرات والخمر.
· محاولات انتحار أوضحها تلك التي حاولها في البحيرة المتجمدة وأنقذته منها أنطونيا المخلصة ودخل على إثرها مستشفى المجانين كما يسميها. ثم محاولات ابتلاع زجاج متكسر وخنق نفسه بكابل التليفون.
· نوبات حادة من الضيق والكآبة الشديدة، والتوتر والقلق.
· شعور مزمن بالخواء في مصر أو ألمانيا أو اليابان، وشخصية ملولة متشائمة لا تهدأ ولا تستريح من فرط السأم ولاترى إلا أنصاف الأكواب الفارغة.
· غضب شديد مع عدم القدرة على السيطرة عليه كما في أفعاله العنيفة كلها والتي كان واعيا لها ويعبر عنها بصراحة بقوله" العنف الذي بداخلي" وكما اتضح في ضربه المبرح لزوجته والذي أفقدها القدرة على السمع.

وعلى هذا الأساس فإن الطرح الفكري لجدلية كجدلية العقيدة لا يستمد أهميته من ذاته وإنما هو مجرد مُورِّث آخر للقلق وتشوش الرؤيا وخاصة عندما يصدر عن وعي مختل وغير ناضج للذات.. وعي عالق في أسئلة الطفولة المبكرة الساذجة والتي تعاظمت ليس لما تنطوي عليه من قيمة أو أهمية وإنما هي منتج غياب الأجوبة عند البطل. يجاهد شاكر في طفولته المبكرة لحفظ القرآن بتشجيع من والده لأن أباه قد لاحظ أنه يتمتع بذاكرة قوية، في نفس الوقت نجد الأب منشغلا عنهم دومًا بمدرسة تحفيظ القرآن، والمعهد الديني، وشئون المسجد. هو ذات الأب الذي هرب من الميدان وترك أعز أصدقائه يتفحم في مدرعته. وهو يضرب زوجته ويتعاطى المسكرات والمخدرات. هو نموذج للازدواجية يعيد إلى أذهاننا سي السيد "أحمد عبد الجواد" عند نجيب محفوظ.
في الرواية ص 107: ".... ولكن قصصا أخرى في القرآن كانت تتنافى مع فهمي لرحمة الله وعدله. مثل قصة سيدنا يونس وأيوب وقصة الخضر الذي قتل غلاما خشية أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. وقصة إبراهيم الذي رأى في المنام أنه يذبح ولده فقام وحاول تنفيذ مارأى دون أدني اعتبار لمنطق أو مراعاة لحقوق طفل لا يعرف ماهي الرؤيا ومن هو الله!"
هذه قضايا محسومة بالنسبة لمن وجد بر الأمان وعقلن بعض وجهات النظر المحايدة والمنفتحة؛ لكنها لم تحسم بالنسبة للبطل لأنه لم يجد إجابات مقنعة وقد تجلى هذا في حوار بينه وبين أبيه في ص 108، و109 يقول له :" اسمع يابني مفيش حاجة اسمها تدور على ربنا." وهنا اتضح جهل الأب فكل الأنبياء بحثوا عن الله وكل الخلق مطالبين بالاستدلال على وجود الله من نعمه ومخلوقاته وهناك الأدلة العقلية والأدلة النقلية على وجود الله كما تعلمنا. لكن الأمر في النهاية يلتبس عند شاكر ويظل ملتبسا حتى النهاية. وبالمناسبة فإن حالة الالتباس والقلق العقائدي تمتد حتى آخر صفحات الرواية التي يقول فيها: "يا أرحم الراحمين ارحمنا يارب" الرواية ص 253. فهل ياترى وجد شاكر بر الأمان؟!
وخلل الوعي ليس فيما يخص العقيدة وحدها وإنما يمتد لوعي الذاكرة أيضا: فلنقرأ في الرواية ص76: قررت ألا أبقى يوما واحدا في القاهرة بعد ذلك. إن هذه المدينة لا تعرف أسماء أبنائها. إنها تخنق أولادها تحت أحجارها وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم في أنابيب مجاريها. جئت إليها فاتحا ذراعي وظننتها ستعانقني ولكنها حتى لم ترد علي السلام. لا أحد هنا ينصت لأحد.... تداخل الوعي الطفولي مع الوعي الآني في مواضع كثيرة من السرد أحدث بلبلة لأنه من المفترض أن الوعي الآني أنضج ويمتلك ميكانيزمات دفاع ايجابية الأمر الذي لم يحدث مع بطل الرواية. هل هذه مبررات طفل لم يتجاوز الرابعة والنصف من عمره؟ في ص77 عندما يتكلم عن مفهوم الأمانة والعدل عند جده لم يبد مقنعا.
ملاحظات سريعة
الفصل المعنون بمقابلة الرب في ماكدونالدز بدا مقحما ودعائيا، ولم يكن مقنعا لي على الأطلاق محاولة توليد موقف فكري اعتمادا على مفارقة لفظية. يقابل طفلا اسمه Gott وهي تعني الرب بالألمانية فيقول: "الرب يأكل في ماكدونالدز. ربما كانت هذه آية من السماء!!"الرواية ص 294.
في مستشفى المجانين:
أدهشتني للغاية عدة أشياء: أولها وضعه تحت حراسة في المستشفى الذي يعالج فيه المجرمون والمغتصبون والمدمنون وهو ليس كذلك. هذه جريمة غريبة في حق المريض النفسي ولا يمكن ارتكابها في بلد مثل مصر فمابالنا بألمانيا!. تلك المحاكمة التي شكلت له وقررت حبسه في المستشفى لأنه يشكل خطرا على نفسه ومحيطه لأنه حاول الهرب. أي محاكمة تجرى لمريض نفسي في مستشفى؟!!! غير مقنع لي على الإطلاق. لم يقنعني أيضا أن مريضا (شاكر) مكتئبا ويحاول الانتحار يحاول الايقاع بسوزانا الفتاة المغتصبة لأنها تعجبه. ليس هذا الاكتئاب الذي أعرفه! عقار مثل الهالوبريدول يسبب التواء اللسان بألم فعلا وهو ما يعرف في الطب ب: Extra Pyramidal Symptoms لكنها يمكن عكسها بسهولة باستخدام عقار آخر وأتعجب أن يخضع البطل لعملية تعذيب وتجاهل غير مبررة كتلك وهي جريمة أخرى في حق الممارسة الطبية، وبالمناسبة وتصحيحا للنسق المعرفي في الرواية فإن التشنجات ليس علاجها الصدمات أو الصعقات الكهربية أو الحبوب المسكنة للألم. (اعتذر عن هذه الملاحظات ولكن لا استطيع منع نفسي عنها بحكم المهنة)
اللغة:
تأثرت اللغة في عدة مواضع بلغة القرآن على مستوى الاقتباس. لم التقط لغة خاصة بالكاتب. باختصار هي لغة تقريرية بسيطة تحفل أحيانا ببعض التشبيهات، ولا تتجاوزها في معظم الأحيان إلى مناطق جمالية أعلى.
في النهاية لقد برع عبد الصمد في رسم تللك الشخصية الضائعة حتى الملل.

الاثنين، 18 أغسطس 2008

هل وجدت ماهينور حلا يرضي جميع الأطراف؟

التأمل في الكون ينتقل من جيناتي إلى ماهينور، وهاهي الآن تفكر باستغراق شديد في أزمة الشرق الأوسط!

السبت، 16 أغسطس 2008

الفاعل لحمدي أبو جليل .. الرواية المسموعة

الفاعل لحمدي أبو جليل.. الرواية المسموعة

قرأتها لكم أسماء شهاب الدين

هذه الرواية ولا شك أفضل من الرواية السابقة للكاتب حمدي أبو جليل لصوص متقاعدون. لقد استطاع أبو جليل الاحتفاظ بقاريء متململ مثلي من الجلدة للجلدة. أضحكني حتى الثمالة، ودفعني للتأمل، وأثار لدي شجونا، ورفعت حاجبي دهشة.. كل هذا في رواية واحدة.
هي كما أظن رواية سيرة ذاتية. رواية لأنه كاتبها وأسماها كذلك وبالتأكيد لعب التخييل الروائي دورا لا يستهان به هنا، وسيرة ذاتية لأنه يحضر فيها باسمه وكتابته ومهنته وعائلته، وطبعا ضمير السرد الجبار أنا. قليلة هي الروايات التي تنتمي لهذا التصنيف، فهي تتطلب الكثير من الشجاعة الأدبية لكن الثمرة تكون ناضجة وحين نقضمها نستمتع بها كقراء لأننا نبدو وكأننا نشارك في عملية تلصص حميمة.. عملية تجسس (لذة أن نراهم عيانا بيانا، وهم لا يروننا)على مجموعة منتقاة من البني آدميين مسحورين بفكرة أن هذا حقيقي، أنه حدث فعلا.
الاقتباسان في مستهل الكتابة:
لقد استخدم أبو جليل اقتباسين: الأول لإبراهيم منصور يقول: البعض معه فكة، والبعض ليس معه فكة.. وهكذا الحياة. الثاني لمارجريت دورا: أعتقد أن ما حدث لي يحدث لكل إنسان آخر بدون أي اختلاف. هما عتبة النص بالنسبة لي. اعتبر الأول ركيكا في لغته وفي نوع الرمز(الفكة) الذي يعتمده من أجل تقديم الحكمة من خلاله، ويمكن أن يقوله الفواعلي، ويستشهد به في كلامه. والثاني راقيا ومتفلسفا ببساطة جمة (أدبي بامتياز). يعكس الاقتباسان حالة من الانفصامية تسود الرواية كلها كثيمة مهيمنة (الراقي في مقابل الوضيع. الهوية المتفردة التي تمنحها الكتابة في مقابل الأصل البدوي ذي النفخة الكاذبة والعنطزة الفارغة لو جاز التعبير. المنفتح في مقابل القَبَلِي. الوعي في مقابل الجهل. الأمل في الترقي في مقابل الاستكانة الاجتماعية أو التجمّد عند مرحلة معينة) على المضمون واللغة وتقنية الكتابة.
بطل الرواية/ السارد بضمير الأنا/ حمدي أبو جليل قدم شخصيته بشجاعة يحسد عليها وبإحكام شديد في سياقاتها الاجتماعية والثقافية، وقدم لنا عائلته بسخرية عبقرية ملونة بنوع عجيب من الحياد(إن قوما بهذا القدر من الغباء والكِبْر لا يصح معهم سوى أن يقهقه وهو ينتقدهم علهم يغفروا له في محاولة ممتازة للتمويه). أعتقد أن هذا الحياد يعكس مولد الوعي (الوعي بالذات/ بالاختلاف عن قومه/ منذ أول سطور الرواية. أبو جليل كان أمينا في تقديمه لشخصية البطل البدوي. العرب أو البدو أقلية. إنه يفكر ويتصرف بأسلوب فرد من الأقلية اختزل الوطن بالنسبة له في عزبة صحراوية بالقرب من الفيوم. متردد ومواقفه مائعة (في الحب وفي السياسة وفي التعليم) ولا ينطلق من أرضية انتماء صلبة للوطن الأم الذي يصطدم به بشدة في القاهرة وفي العواصم الإقليمية، غير الواثق في إمكانياته كما يقول في ص 11. دوما يشعر بالغربة وتبدو شبرا بالنسبة له كإيطاليا أرض الأحلام بالنسبة للشباب العاطل عن العمل أو كل المصريين الذين كرهوا البلد. إنه ليس فاعلا على الإطلاق. هو البطل الضد متوار خلف شخصيات الدكتور، وعولة، والمعلم مطر، وبكر وغيرهم.
مضمومات قصصية في عقد الرواية:
هذه هي التقنية المحيرة التي اعتمدها أبو جليل للحكي هنا. سماها الأديب الكبير خيري شلبي تكنيك الهرتكة يقصد به المزق الملمومة على عجل. إن كل فصل يكاد يكون قصة قصيرة منفصلة بذاتها لكنها متصلة بالسياق العام. مضافا إلى ذلك أنها لا تخضع لترتيب زمني متصاعد من الأقدم للأحدث بل كتبها أبو جليل كما عنّ له، وعلى القاريء أن يرتبها في عقله وهي مهمة ليست من الصعوبة بحال مع هذه الشخصيات / الكائنات المدهشة التي طرحها. لكن الحيرة مبعثها أن هذه التقنية مع هذا العالم غير مشبعة لأنها
أولا:اعتمدت تقديما ساخرا للأخبار تارة، او اقتصادا سرديا قد يلائم مقام القصة القصيرة تارة أخرى.
ثانيا: وكما يقال العينة بينة أي أننا أيقنا بثراء هذا العالم وبكثرة مافي جراب الحاوي، لذلك نطالب بالمزيد كقراء معتدين على حقه الأدبي في أن ينتقي لنا مايشاء!
وأستعير مقولة خيري شلبي الجميلة هنا: "أغلب ظني أن حمدي أبو جليل قد صرّ عالمه في منديل محلاوي وربطه حول رأسه ثم فرطه أمامنا كيفما اتفق إلا ان الفتافيت والمزق كانت طعاما شهيا أكلناه قرقشناه بلذة فائقة تفوق لذة الأكل على موائد الدسم."
يبقى سؤال بخصوص سيرة الوعي. لقد فرضت هذه التقنية هيمنة الوعي الآني على كل ما سبقها من أحداث. كنت أريد أن أعرف متى بدأت الصدمة المعرفية الأولي (لا أظنها في معهد أم حسن). متى علم أنه مختلف/ موهوب/ خارج القطيع؟ كيف انفعل ككاتب بأول كتاب أدبي قرأه، وكيف كابد مع اللغة، أقصد لغة الكتابة؟
جدلية اللغة:
لو جاء الحوار في هذه الرواية بغير العامية (سواء أكانت قاهرية أو بدوية) التي كتب بها لانضرب الصدق الفني في مقتل. أما باقي أشكال اللغة في هذه الرواية فقد طالته العشوائية في كثير من المواضع. شهدت الرواية في الربع الأول منها تضفيرا متوازنا ومتقنا بين الفصحى والعامية. ووجدنا حمدي أبو جليل يضع كلمات العامية بين أقواس مثل: "النومة" (وهي تصلح فصيحة)، " تباعا"، "ينضف"، "أشوّن"، "إيه وليه"، "المرمطة" وهكذا (مع العلم أن معظمها فصيح أصلا أو يمكن بسهولة إخضاعه لقوانين الفصحى) وقُبِلَت في سياقها كما الحوار مقبول في سياقه. بعد ذلك بدا وكأن الكاتب ماعاد يعير المسألة اهتماما، فاختلط الحابل بالنابل وشهدت الفصحى في كثير من مواضعها (رغم كونه قادرا على إخراج طاقات متميزة في الفصحى) أخطاء نحوية كثيرة وخاصة في نصب المفعول به، ودخلت العامية في مواضع كثيرة بلا مبرر في وسط سياقات فصيحة لا يضيرها شيئا لوأكمل أناقتها وجمالها بالبديل الفصيح. في صفحة 108 مثلا: "أحيانا كنت أحسبها له، مساحته لا تزيد عن ميتين(بدلا من مائتي) متر، ولن يحتاج أكثر من عشرة أنفار. تتحفر القواعد (بدلا من تُحفر)،وتتسلح، وتتصب (بدلا من تُصَب)، وتطلع العواميد (بدلا من الأعمدة)، وهما شهرين (بدلا من وهما شهران)...، وتلاقي (بدلا من تلقى) التلت(بدلا من الثلاث)... " والعامية تكتب كما تنطق، وينبغي أن يلتزم فيها بالمد بالألف حتى تفهم أيضا.
في الرواية ص 57:"وكانت الدنيا برد، تلج والله". تلج بالتاء. الأمثلة كثيرة وفي رأيي ربما تعكس عدم توفيق في محاولة لإنتاج رواية تسمع على الملأ / شفاهية. هل يكون الأمر مجرد سخرية من الفصحى، وهل هذا نوع بلدي من التشظي؟ بدا الأمر عشوائيا جدا ويشبه انتصار لغة الفواعلي على لغة الأديب، أندهش لما فعله أبو جليل في لغة روايته وخاصة عندما أنظر لبعض مواضع الفصحى في الرواية التي هي في منتهى الجمال. إقرأوا معي هذا الجزء:
"البيت أربع طوابق، زواياه من الحجر النحيت، بني تقريبا في بواكير القرن العشرين، وهيئته الراهنة لاتبشر بأي خير. مطر قَاوَلَ سكانه على مخاتلته، خطفه، تنكيسه أثناء بنائه في السر، البيت المتصدع بالنسبة له أشبه بعجوز قانع يستعجل نهايته، وجراحته تهدف لتمكينه من نعيم النهاية والحياة معا، شيء يشبه إخراج الميت من الحي وإخراج الحي من الميت، لا يقترب أبدا من أسلوب عمارته، وأحيانا يضيف إليها ما شاء من الطوابق، وفي نفس الوقت يطلق معاول الهدم". الرواية ص 142.
أعادت لي هذه الرواية ذكرى "الخبز الحافي" لمحمد شكري، كلتاهما رواية سيرة ذاتية، وتفضحان عوالم سفلية وحضيضية. كان محمد شكري في الزمن الذي كتب فيه سيرته لا يقرأ و لا يكتب أصلا أي أن أبو جليل متفوق عليه معرفيا بمراحل. فلنلق نظرة (كلنا من معي ومن ضد رأيي )على لغة شكري في الخبز الحافي، وعذرا لأني في هذا الموضع أحيل إلى رواية أخرى.




شخصيات بحاجة لبعض التأمل:
إيمان العظيمة التي فضت بكارته. مر عليها مرور أكرم الكرام. المرأة/ إمرأة الأديب/ الملهمة/ التجربة الاستثنائية/ صنو العقل والشعور غائبة تماما في مقابل سمانة رجل هنا ونهد هناك وهلم جرا. ربما كانت كل علاقات الحب بالنسبة لواقع الراوي مشوهة وغير مكتملة كما ظهرت في النص الروائي وكنت أتمنى أن يلعب التخييل دوره هنا ليقدم لنا شخصية ثرية أخرى.


أسماء شهاب الدين


طرح مهاب أخيرا في الأسواق

بعد النجاح منقطع النظير لماهينور نجمة المدونة، نقدم لكم توأمها، الروحي والبيولوجي، أخاها الذي يكبرها بتسع دقائق فقط لا غير مهاب ، معذبها ومفجر دموعها، وهو هنا في سبيله لإقامة تصالح مع الذات.
من أسماء شهاب الدين
أم مهاب وماهينور
Posted by Picasa

الأربعاء، 13 أغسطس 2008

في مووود المناسبات الأدبية من كم شهر في مكتبة آفاق
لمحة..

أسماء شهاب الدين
كاتبة وطبيبة مصرية.

صدر لها:
ربما كالآخرين: قصص، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، 2003.
ابن النجوم: قصص، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003.

الجوائز:
_ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقات سعاد الصباح للإبداع الأدبي، الكويت، دورة 2003-2004.
_ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقة دبي الثقافية، الإمارات العربية المتحدة 2005 .
ـ جائزة المركز الثالث في الرواية، عام 2003، المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2003.
ـ جائزة المركز الأول في الرواية في المسابقة الإقليمية (أحمد فتحي عامر، مستشار دار الفكر العربي) برعاية دار أخبار اليوم، في دورتها الأولى، عام 2003.
ـ جائزة المركز الأول في القصة القصيرة، مسابقة عبد الرحمن الشرقاوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، عام 2004.
Posted by Picasa
يكفيني سنتيمتر واحد فقط من الحنان
Posted by Picasa

ماهينور ابنتي الحلو حلو ولو على ريق النوم

Posted by Picasa

الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

رسالة إلى الوجه المسافر....إهداء إلى محمود درويش الله يرحمه

’وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب‘
محمود درويش
أخي الحبيب غسّان:
هذه هي المرة الأولى التي أكتب لك فيها رسالة أخطّها بقلمي على أوراق نزعتها من دفتر اللغة العربية، بعدما تيقنت أني لن استخدمه مرة أخرى؛ لكنني ـ والله ـ فكرتُ في ذلك كثيرا، ياغسان وأنا أحاول أن أرسم صورة لملامح وجهك، وزن جسمك، شكل عضلاتكَ وحجم انتفاخها، حركاتكَ وسكناتك ولزماتك الكلامية. أعلمك مبدئيا بأنه ستكون هناك رسائل ورسائل مكتوبة على أوراق انتزعتها من دفاتر مدرستي التي أغلقت أبوابها في وجوهنا.
حين غادرتنا وابن عمنا تميم، كنت صغيرا وكنت أنا أصغر من أن أعي سبب انتحاب أمي حتى الإغماء، وتقطيب حواجب أخواتي البنات الكبيرات، والدموع الساخنة الناضجة في عيونهن؛ لكنني حزنت للغاية لأن تميم الشاب الودود ـ الذي كان يعلّقني بساقه الطويلة، ويؤرجحني حتى يتقلص بطني من فرط الضحك، وأكاد أسقط من صهوة تلك الساق الفتية إلى الأرض الخشنة ـ سيغادرنا، وستغادرني بعده ضحكتي الحلوة. قالوا بأنه لن يعود، وقد صدقتهم من فوري؛ ولكني وعندما كبرت قليلا ودون أن أعدم وعيي الطفولي المختل، كنت أمارس انتظارك الكئيب!
لابد أن يد الله قد سوّتك جميلا. أمي تقول: ’غسان له أنف أبيه واستدارة وجهه، وكان أبوك جميلا‘. الآن عرفت يا أخي كم كان أبونا كذلك! جميلا لأن أمي كانت تستقبل بوله أسيتوني الرائحة ـ الذي كان يوقظني عطره من نومي لأبكيه ـ المنسال بين ساقيه المشلولتين إلى الوعاء البلاستيكي، المثقلة جدرانه بالأملاح اليابسة، بانحناءة هادئة أظنها اليوم انحناءة مشبّعة بالود والتقدير. أتعلم يا غسّان أن كلنا لنا أنفه وذقنه وعينيه، وللناس كلها هنا عيون تشبه عينيه بلون الزيتون تترقرق فيها أمواج هادئة شفاّفة، هل يكون قبيحا من له مثل هذي العيون التي يبحر فيها الأسى يا غسّان؟! إني أيضا أحمل جمال قلبه في قلبي (لا أقصد نعت قلبي بالجمال، فأنا لست كذلك. أنا أقصد ما تقصفني به ذاكرتي بخصوصه. آآآه يا أبي، أولا تدري ماذا يفعل بنا هذا الشيء؟! هذا الشيء الرهيف في التوقيت المضبوط الرهيف في الظرف الرهيف..في القلب الرهيف؟ أصبحت صورتك تأتيني دوما، وأنت جالس معنا إلى صحيفة الطعام الوحيدة على الأرض، ترتدي جلبابك الرمادي الواسع، ظهرك محنيّ قليلا، وكتفاك تنضمّان بارتجافة خفيفة لتظلّلا صدرك؛ وكأنهما شراع يحنو عليه بالرعاية والأمان، وكأنك أيضا شراع تحنو علينا ـ نحن الجالسين حولك ـ بالرعاية والأمان. نتشارك جميعا في ثلثيّ الصحن الكبير حتى تسحب يديْك وتكورهما في حجرك، ونشاط أيادينا في الصحن يقابله بنفس النهم نشاط عينيك في محجريهما في أيادينا الصغار في الطبق.. نشاط يحاول أن يطمس خجل الجوع بابتسامة رضا. حتى إذا كفّت رقعات صحن الصاج الراقص تحت أصابعنا على الأرض العريانة، جمعت يداك لقيمات رفضتها شهيتنا، وازدرادك لها بعد أن نظّفت بها الصحن يشي بك عندي، ولا يترك شيئا لدناءة الشيطان بعدك، وياللخسارة أني أمضيت وقتا طويلا لأرسم تفاصيل صورتك، ولتطرح تلك الوشاية بك عندي هذي الرهافة لك في قلبي.
صحوتُ من نومي اليوم يهدّني إرهاق شديد كأني كنت اصطرع مع ظلّي! ربما أكون كذلك حقا. وعلى عكسك تماما، فأنت تعرف مع من تصطرع. وربما ينبغي علي أن أعلمك أني بدأت اكتب إليك في ذات الوقت الذي كففت فيه عن إطلاق حنقي عليك! لاحظ أن حدة اللهجة التي تميز هذا الخطاب ليست حنقا عليك بالتأكيد وإنما هي سمة لكل الإناث اللائي بلا رجال. في صباحات كثر ولت، وقبل ذهابي للمدرسة مباشرة، أسأل طيفك المقيم في دارنا: ’لما تركتنا يا غسان، أأنت المنذور لنبوّة تبحث عنها في مكان لا نعرفه ونحن هنا ـ إناث الدارـ دمى يحركها جوع بطونها الغاضبة؟ ولماذا قمت بتوزيع الأدوار بعد موت أبي مباشرة ؟‘ وكأنك لا تعرف أن الدور خاليةٌ من مهمّات النساء، ونطف الرجال، وكأن روح أبي قد دبت فيك أنت! أو استأمنك عليها أو تركها عندك! يا إلهي أستغفرك.
تركتنا يا غسان لنكون ـ أمي وأنا وأخواتك ـ بلا رائحة متعبة لعرق رجل يعول جوع أجسادنا، بلا عضلات تحمل هموم أيامنا، بلا أحضان رجولية تتلقف ضعفنا لتقتله في مهده، بلا رجل يغار على ضفائرنا الهاربة باتجاه الضوء والهواء، بلا رجل يُشرب الفتيات الصغيرات رجولته ليتمكنّ من الشهيق والزفير على هذه الأرض. هل تركتنا حقا للتناسل الخصيب الطاهر؟ هل حملتنا وحدنا مسئولية إنتاج ديدان الأرض كما يقول عضو الكنيست الإسرائيلي حزان؟
حين مزقني حنقي عليك، قصصت ضفائري، وارتديت بذلة كاكية متهرئة كانت لأبي، وصرخت في وجه أمي: ’سأرحل كما رحل غسان ومن قبله أبي. ’لقد مللتُ البكاء، وقد اخشنّت كفّاي بما فيه الكفاية!‘ بكت أمي كثيرًا؛ لكني علمت قلبي كيف يقسو. انتحبتْ ذلك النحيب الذي أمقته، وقلبي يقسو. جثت على ركبتيها أمامي، وقلبي يقسو. قبّلت قدمي، وقلبي يقسو. أغشي عليها وسقطت بجانب جديلتيَّ المُجْتَثتيْن على الأرض. لم أكن أريدها تمارس كل ذلك البكاء المقيت! مازالت أمي قربانا لقسوة قلوبنا كلنا يا غسان، أقول هذا رغم عدولي عن فكرتي الانتقامية التي لم تكن تستهدف سوي سحق قدرتها العجيبة على كل هذا البكاء. أخواتك يقلن لي ليتك خلقت ذكرا! ليس لأني لم أبك عليك يوما، كما لم أبك على أبي، بل لاعتقادهن أن ذلك سيشقيني أكثر جزاء ما سببته لأمي من آلام. أتعتقد أنت ـ باعتبارك ذكرا ـ هذا؟ أوليس في أمنيتهن لي غباوة؟ إني أرى أن الراحلين عنا..الراحلين إلى الأبد ـ لابسين الثياب المزركشة، ومتعطرين حتى أعمق ثنايا الجلد ـ يلقون بالنكات الطازجة عن انتخابات السلطة الفلسطينية، ويخرجون ألسنتهم للـ...للمقيمين هاهنا. "موتوا بجحيمكم..موتوا ألف مرة!"
أنا الآن لا يشغلني انتظارك ـ هن يعتبرنها خصيصة رجولية تضاف إلى صفاتي! ـ لأني قد ابتدعت نضالي.. أناضل من أجل نفسي. نفسي. حتى تبقى عيوننا لا تغمض أجفانها، ولا يقربها رمد، ولا يتراكم شمع الكسل في آذاننا. هذه كلمات أبي، هل تذكرها؟ إنني حقا أجبن من مسئولية ارتداء حلة أبي الكاكية القديمة، لذا تمهل قبل أن يقلقك ترديدي لهذه الكلمات النارية. لقد فهمتها كما أريد. سأحكي لك حكايتي مع النضال! أنا لست أقل منك كفاءة بأية حال من الأحوال! منذ حوالي الشهرين، طلبت منا معلمة الفصل التعبير بالرسم عن بهجة الدنيا لاستقبال فصل الربيع. رسمت الفتيات أشجارا مورقة، وزهورا بديعة الألوان، وسماء بلا دخان، وبيوتا غير متهدمة، وبساطا سهليا أخضر يمتد إلى المدى. لابد أنهم قد رأوا تلك الأشياء في أفلام الرسوم المتحركة! أما أنا يا أخي العزيز، فقد رسمتك مرتكزا على إحدى ركبتيك، ثانيا الأخرى بثبات على الأرض، قابضا على بندقية أبي. كنت تنظر نحو المدى، رغم رؤيتك الواضحة لأعدائك من حولك، ولم تكن ملامح الثائر الصلب تغطي وجهك، بل كانت ملامح المؤمِّل الطموح. كانت ملامح خضراء جدا.
أخت الربيع:
زهوة.

الاثنين، 28 يوليو 2008

من بنات أفكاري العزيزات

الدخيل
يحكى أن امرأةً أفاقت فجأةً على حقيقة أنها نضجت. عرفت ذلك من كدمات الخرطوم الغاضب لاهبًا فخذيها، حين أحبت رجلاً قليل الحظ؛ ومن آلام الطمث؛ ضريبة كونها أنثى التي تمزق أحشاءها غير المنشغلة بمهمة تكوير نطفةٍ صغيرةٍ ما، ومن كلمة "طانط" التي يصر الجميع على قذفها إلى مسامعها. قال الرجل المحبوب: ’أهديك كل ما أملك.‘
قالت المرأة المحبوبة: ’أحب أن أشاركك كل ما تملك.‘
لكن آذان الحيطان بخت فيهما شمعها اللاصق. وألقى الناس بالقمامة فوق رأسيهما من البلكونات العالية. وغضب أولو الأمر جميعهم كما غضب مترو الأنفاق، وإدارة الجامعة، وإستاد كرة القدم الكبير؛ وبعض الذين أسموهما فيما مضى أصدقاء.
ماتت المرأة وهي تملك روح الرجل. مات الرجل وهو يملك روح المرأة.
صحا الناس في اليوم التالي. كانت كل الأشياء قد فقدت ظلالها على الأرض. ليس لأن الشمس رفضت رؤية وجهها على أسطحها. وليس لأن الأشياء امتنعت عن التفكير في إمكانية أن تُشِع بذاتها، بل لأن الأشياء ماتت.. ماتت.
أعرف تلك المرأة، وذلك الرجل، ومعظم الناس قد سمعت بهذه الحكاية. تتمايز النهايات ولكن ديناميكية الشرارة الأولى تشرب من ذات النبع.
كارم كانت ترعبه عتبات الأربعين؛ لأنها قمة المنحنى البياني لعمره الافتراضي ـ حتى لو طارده هاجس العمر القصير جدًا واستقرار الرصاص الطائش في قلبه ـ التي يبدأ كل شئ بعدها في التيبس الرمي البطيء. كارم تخلص من هدايا العهد البائد، وتذكاراته الورقية، ولجأ إلى كونها المبارك. آلاء البيضة المسلوقة شاهقة النقاء وشهية الطراوة، زاهية الحواس. قال لها كارم:
ـ أنا يقينك الخاص الذي لا تتسلل إلى مسامه المُخَاتَلة، فخذيني.
أطعمته من جوع وآوته من خوف. كان كارم أخضر ساذجًا ولزجًا كجنين. وكانت آلاء تملك حضنًا رحبًا كأمٍ قديمة. وفمًا مملوءًا بالفراشات الملونة. رفض كارم وآلاء أن يموتا وأن تموت من حولهما الأشياء. بينما كنت أكابر للاقتناع بحياة الخسران المقنع. وأطعم ابني كراهية أبيه البعيد.. البعيد جدًا.
تنحسر العولمة عند عتبات شقتهما الصغيرة. فتذوب اتفاقية الجات، ومظاهرات سياتل. تتهاوى إعلانات الكوكا. وحرب الكواكب. وأخبار التشكيل الوزاري الجديد. وأزمات البطالة. وارتفاع الأسعار. وازدهار تجارة البانجو. كانت آلاء ترتدي ملابس فضفاضة قاتمة اللون. نبذ وجهها المساحيق؛ وكانت خطوتها منهكة. حين هاتفتني وشى صوتها ببواكير اليأس. ربما لذلك انتشى قلبي قليلا. تمنيت أن يحضرها كارم إليَّ. لم أره معها. سقط مني شيء. قالت هو في سفر قصير. طلبت منها انتظاري ريثما أفرغ من درس طلبة البكالوريوس. انزوت في ركنٍ قريب.
عيون كثيرة.. كثيرة جدًا كأكواب الشاي الحبر تتربص بها، وتشاركني أوكسجين الغرفة الضيقة. أجساد متلاصقة تقف بجانبها على سرير الكشف وفوق كتفيها، على المكتب وكراسي الغرفة القليلة. تخلع المرأة جلابية عن جلابية. يسقط إيشاربها فينتفش شعرها الأسود. أقول لها وأنا أحاول الإمساك بتلابيب الصبر:
ـ يللا ياستي.
تنظر في عينيَّ نظرة آملةً في شيء لا أعتبره شيئًا، ثم تقول برجاء:
ـ من غير ما أقلع.
كلهن يقلن ذلك. عقارب الساعة التي منحتها صباح ذلك اليوم عشرين دقيقة إضافية ترن في أذني. أقول:
ـ اللهم طولك يا روح. دول دكاترة زمايلنا.
تسحب قميصها الأسود الباهت على جسدها الطحيني. كانت ترتدي مشد صدر أسود ضمت جناحيه بـ"أستك" رفيع. ثديها الأيمن أضخم ما رأيت. ثبتت نظرتها عليَّ. أقول:
ـ جات على دي بقى.
انطلقت ضحكات مصطنعة من أفواه الطلبة. أخذت تعالج الأستك بتراخٍ. تعرت حتى سرتها. ظهرها كقوس لا ينتصر لشهوة عين، أو فتنة صدر. أوردة زرقاء انعقدت ما بين الثديين كتميمة خاسرة. حلمة غائرة. هالة غامقة. اختلست النظر إلى آلاء التي أخضعت نفسها، بالكاد، لاختبار التحمل هذا. أومأت لها برأسي. انفجر التوتر في ملامحها. قررت أن أهمل الفحص العام. سألتهم:
ـ بالانسبكشن كده. مين يقول؟
فجأة انتفضت آلاء ثم اندفعت للخارج. بسرعة. حاولت اللحاق بها. ذابت في صراخ الممرضات ودبيب الأقدام بالخارج.
بعض الأطباق المتسخة في الحوض. وبقايا طعام متعفن في الثلاجة. يقشعر بدنها للغبار الدقيق الذي يتطفل على الأثاث، وتابلوهات الحوائط. يضايقها الرمل المتناثر على السجاد. شعرت بأنها ربما نامت أكثر من اللازم. خارت قواها، فرقدت على السرير. سألت نفسها مباشرة: أين الوجع؟ لم تستطع إجابة مقنعة. قامت إلى الأطباق المتسخة. كسرتها وألقت بها في القمامة. تخلصت من بقايا الطعام المتعفن. حملت ملابس نظيفة ودلفت إلى الحمام وهي تذكر نفسها بأنها ما هي إلا ساعات قليلة ويزهر كيان كارم في أركان المكان.
ـ مجرد ثديين!
حاولت أن تقنع نفسها. أصبح الاستحمام في قسوة اعتراف مسيحي. خلعت ملابسها ببطء عقربي ساعة متجمدة. اكتسحتها البرودة. التقطت عيناها صورة سريعة لثدييها. نمت الكتلة التي استعمرت الثدي الأيمن قليلاً. نبتت بواكير الدمع في عينيها. ابتلعت ريقها بسرعة. همست "آه يا كارم". صنعت إرادة ما تملي على دماغها الكلمات:
"من أجل كارم".
استطالت أعشاب جسدها سريعًا. فرت قواها منها حين فكرت في ضرورة أن تمارس طقس اجتثاثها. حركت كرسي الحمام الخشبي تجاه المرآة بجانب الباب. تصعد عليه وترتفع بجسدها قليلاً. يرتكز ثقلها على مشطي قدميها الزرقاوين. ثدياها الآن في مواجهة المرآة. تبتلع شهقة صغيرة. تتحسس الكتلة الدخيلة بحذر. تغافلها دموع أغزر. ترفع ذراعيها عاليًا. يتنقر الجلد فوق الكتلة. تملأ آهاتها المخنوقة بمياه الدش الساخنة. يسري الوهن في دمها. تتكور على بطنها في ركن الحمام. تتلاشى صورتها.. عمرها. حقيقتها للحظات يتوحش فيها الخوف. يختلط نشيجها العالي ببخار الماء. ويعاودان النفاذ إلى مسام جلدها. يتهاوى هيكل النشيج شيئًا فشيئًا، فتطفو على سطح المياه الساخنة في أرضية الحمام.. يتكرمش جلدها. تتفتت أعضاؤها وتطفو.. تتجه مع مجرى المياه الساخنة إلى البالوعة في أقصى ركن الحمام ارتدت قميصًا حريريًا عاري الذراعين والظهر. التصق بجسدها الذي لم تجففه. شعرت بأن روائح الأيام القديمة لم تزل تلطخ جسدها. استلقت على سريرهما. لم تستطع أن تقرأ الجرائد أو تستمع إلى الراديو كما اعتادت. حاولت الاستغراق في نومٍ قصير.. السرطان طريق مقفر..جاعت شبابيك مخيلتها ورثاء النفس أحد حقوقها الإنسانية المشروعة. كل البشر يرثون أنفسهم. تهرش في رأسها بقوة، تنكش ما ركد من الشياطين الصغيرة.
تفرد جسدها بطول السرير وتحدق في لاشيء. فكرت في أن تفعل ما افتقر إلى زلزال ليتغير..مثلاً اسمها الذي لم تألفه حتى بين شفتي كارم وهو يحذف همزته الأخيرة.. يصعد به السلم الموسيقي ويهبط به السلم الموسيقي آلاء آلاء. ربما تبيع طاقم الصيني ليتمكنا من قضاء أسبوع بالغردقة. أو تشم حاجبيها وتزرع الكولاجين في شفتيها وصدغيها بما ادخرته مدة عامين لتتوه عن ملامحها المسرطنة. أول نظرة منها إليها كانت إلى أقفاص الروح من الداخل. صادقت المرآة منذ وقت قريب ومع هذا لم تعتد سحنتها قط. رؤيتها لها كانت تؤلمها بشكل مبهم وتدفعها لبحث عن أنامل فنان مبتدئ لتداعب المرآة! كارم! يقول لها أيها الوجه المقدس.. القديم، المسن، المجهد، الأثري، معتق الرائحة، المتشقق، مُعَكّر البياض. التميمة المقدسة التي لا يشترط فيها أن تكون جميلة أبدًا. بينما يخلق دماغه من حولها كل ذلك السحر الأسود اللذيذ! والآن، نظرة منها إلى أناملها تخبرها بأنها هَرُمَت سريعًا. سريعًا جدًا.
لن تختزل حذافير الروح والجسد وأغنياتهما في دمعةٍ كما اعتادت أن تفعل. كل ذلك الكلام الذي يفترش ساحة القول سابقًًا سيكتسب أهميةً عظمى. من المناسب أن تتذكر الآن أنسباء الدم، ويتذكرونها ربما لتمنحهم مادةً جديدة للرثاء. هل سيبكي كارم من أجلها؟ وهل سيجد امرأة أخرى يلجأ إلى كونها المبارك، ويهمس خذيني؟ وهل ستكون أنا؟ نامت بلا غطاء ولا هدهدة أو أحلام. لمس كارم بقعة الدم التي فرضت نفسها على قميصها الأبيض بروح الاستكشاف. سرى الصهد في أوصاله ونبت عرق على جبهته. أرادها أن تفيق؛ فمعرفته الناقصة بهذه الأمور أربكته وأجلت هواجسه قليلاً. لثم أناملها. فتحت عينيها. اختزلت حذافير الروح والجسد وشكواهما في دمعةٍ ودلفت إلى حضنه. كانت تحدق في أنامل كارم وهي تعامل أزرار قميصها بشرود وتفرد مساحة من البياض الخالص في عقلها، لا تشوبها فرحة روحها المُرَاوِغة التي تطاردها روح كارم باستماتة حتى تضمها ولا يجرحها أسى استقبالها لهذا التعاطف الديناميكي. تفلت منها ملابسها في خفةٍ. يبتسم في وجهها ويقبل جبهتها، فتبتسم ابتسامة جريحة. يضمها إليه محافظًا على المسافة بينهما حال العناق بين صدريهما. تهمس له أن هذا لا يؤلمها؛ وهذه المسافة بينهما حال العناق هي الوخز الحقيقي. يبتسم مرة أخرى قائلاً: "حاضر" التي تحبها منه وادعة. يضع كرسي الحمام أمام قدميها. يمسك كفيها فتجلس. يختبر دفء المياه. يفتح الدش، ويبتعد قليلاً. يندفع الماء نحوها. يغسل ظهرها بالصابون. تبكي عجزها. تتوه دموعها في الشلال الصغير لماء الدش وتتوه حمرة أنفها في عبث بخار الماء بكل ما في الحمام. تنزلق الصابونة من يديه وتستقر بين قدميها. تضحك. يقبلها عبر رغوة الصابون. يبتل روبه. تضحك ثانيةً. يُبعِد شعرها المبتل عن عينيها. تبتسم له، وتئد ابتسامتها حين تفكر في أن هذا لا يناسب من تسيح الخلايا السرطانية في أجسادهن. يرق لها. يرى أعماقها الآن شفافة متسامية السطح والكتلة رغم روحها التي حفلت بالكدمات.
بقوة أوفر يضمها ويسألها ضاحكا: هذا لا يؤلم حقًا؟!
ندت منها آهة قصيرة. هو لا يجيد تمشيط شعرها. رن جرس الباب. خدمة توصيل الطلبات للمنازل. أخذ يطعمها بإلحاح ذلك الطعام "التيك آواي" الذي يفتقر إلى جوهر الطعام، بينما تمنحه الإضافات روائح زاعقة وألوان فاقعة. شعرت بالامتلاء سريعًا.
هرولت إلى الحمام بغتةً. أفرغت ما في جوفها دفعة واحدة. شعرت بالطعم اللاذع لحمض الهيدروكلوريك المعوي في فمها. أخذت تعب من ماء الصنبور، بينما يربت كارم على كتفها. أعد لها نُعنَاعًا مغليًا وطبقًا مملوءًا بالعسل الأبيض. جاءتهما مهاتفتي في تلك اللحظة. كان صوت كارم خافتًا بلا حيوية، ولست أدري لم أشعر، دائمًا، بأنهما يملكان نفس الصوت. سألته عنها. لم أشأ التحدث معها، وقلت له: دعها تستريح. أخبرني بموجز سريع عن حالتها الراهنة. أخبرته أن يطمئن، وأن الأمر لا يتعدى نوعًا من الدلال المفرط. لم يرد. أنهى مهاتفتي بصرامة وسرعة بعد أن رشحت له طبيبًا جيدًا.
شربت النعناع المغلي، واستلقت على السرير في ظلمة الغرفة. اندس كارم بجانبها. كان يعلم أنها لن تنام الليلة. جاءه صوتها متسمًا بنبرة محايدة:
ـ حميد أم خبيث؟
صمت برهة ثم قال:
ـ الله يحبنا. هل نسيت؟
كانت تود أن تقول "ربما أموت" أو "ربما يستأصلون ثديي"، لكنها لم تستطع. كما لم تستطع أن تملي وصاياها وتطلب منه الاعتناء بنفسه. وضع ذراعه تحت رأسها. أغمضت عينيها. لم يندهشا لرؤيتي في عيادة الطبيب. ولم تنبذ كفا كارم أناملي التي وضعتها عنوةً بين قبضتيه أثناء انخراط آلاء في دوامة الفحوصات محاولةً تذكيره بأنه قوي!
لم يندهش كارم، أيضًا، حين انسحبتُ قبيل خروج آلاء. كانت يداه تعتصران كفها طوال الطريق بقوة. ربما كانت أكبر من تلك التي اعتصرت بها أشعة جهاز الماموجرام ثدييها. وحتى لحظة ظهور نتائج تلك الفحوصات، هل تتجمد أوصال الحياة؟ لم يستطع كارم سوى أن يسأل الطبيب مباشرةً: هل ستموت؟ أجاب الطبيب بجفاء: مستبعد. وسنتأكد عما قريب. لم يعرف كارم هل يبتهج أم يؤجل ذلك. ماذا يقول لآلاء حين تسأله عن اختلائه بالطبيب؟ حاول أن يبدو طبيعيًا. تحدث عن رداءة الطقس. وغرابة ملابس بنات الثانوي. وواجهات العمارات الرخامية. وألوانها الفسفورية البغيضة. كانت آلاء تفكر في تلك الأثناء في كيفية تحول ثدييها إلى مجموعة من الصور الملونة في يدي الطبيب. أو إلى قطعتين آدميتين تنصهر دهونهما في محرقة مستشفى ما. سمرت عينيها على امرأة زجت بثديها في فم رضيعها على الرصيف. ليس لأنها عاقر، بل لأنها كانت تريد أن تعامل ثدييها بهذه اللامبالاة. ها هو ثدي لا تستعمره خلايا سرطانية، ولا تحجر على حركاته رقابة من عيون المارة؛ لأن صاحبته لا تعتبره عضوًا جنسيًا، أو مكملاً من مكملات الأناقة الأنثوية الأساسية! فتحت آلاء باب الشقة. كانت الشمس حاضرة في المكان. نثرت الورد البلدي الأحمر والأصفر في كل مكان. خلعت ملابسها بسرعة وألقت بالقطن الطبي الذي ملأت به تجويفي شدادة نهديها في سلة المهملات. أجلت أعمالها المكتبية. أخرجت كيس اللحم المتجمد من الثلاجة. تحسست السجاد بحثًا عن حبات الرمل. لم تجدها. فتحت الراديو. انطلقت موسيقى راقصة. طالعت مانشيتات الجرائد، وصور المجلات النسائية. دلفت إلى الحمام وهي تذكر نفسها بأنها ما هي إلا ساعات قلائل ويزهر كيان كارم في أركان المكان.

قصة تناولها د. محمد عبد المطلب في كتابه بلاغة السرد النسوي

بيضة الديك
إن النساء أمثالك تعشقن الرجال أمثال بُرَعي أو أقوم قليلاً، لأن عواطفهن يعوزها كيان مضاد يتسع لها....أو تنفر منه....إليه. وهذا الكيان الوحيد ـ بطبيعة الحال ـ هو ما منحك إياه النصيب. برعي الذي جعل من عقله وأذنيه دلاء تضخ فيها أمه وأخواته البنات عصارة كيدهن. أجسادهن ثقيلة، عيونهن بنادق وحديثهن معجونٌ بالأسمنت.
برعي آثمٌ قلبه. يعلم جيدًا أن حيواناته المنوية هي التي تضن عليه بالولد؛ ومع ذلك يريده. يريد الولد!
أين هو الآن، وأنت تنوئين بتسعة أشهر حمل على سرير متسخ الملاءة في غرفة الطبيب الوحيدة هنا؟
تطردين تحفز روحية، الأخت الكبرى لبرعي، الموجه للجزء المنتفخ من بطنك وبناتك الخمس الباكيات لتحدقي في سقف الغرفة تحاولين تبين وجه الله....
ـ يا رب امنحه الصبي.
الصبي الذي قد ينور حياتك، حياتك؟! ملك المتسامرين على المصاطب تتلون برضاه وتكفهر بغيظهم..
تلصقك الانقباضات بعظم السرير؛ وتعصر غددك الدمعية. ثمة ألف قسوة في لحظة الخلوة هذه. تعضين شفتك السفلى وتتقافز الصور الرمادية أمام عينيك:
روحية تفتح ذراعيها فتحة تناسب مقاس جسدك المتشقق وتجعلك ترتمين في تفاصيل جسده وطرقعة نفاق قبلاتها في الفراغ بجانب خديك. برعي يهجرك في الفراش شهرين بعد الفتاة الخامسة. ثم روحية تقول:
ـ عاقر من لم تنجب الرجال..ديك في حظيرتنا الكبيرة!!
تقذفين بصرخةٍ ترج عراء الروح...
ـ ماذا لو لم يأت الولد؟
تموتين بالسكتة القلبية قبل أن يرميك برعي بثلاث طلقات بائنات نافذات؟! ينغرس في لحمك رصاص شماتة روحية وأخواتها؟ ماذا لو لم يأت الولد؟ أستنطفئ جذوة العيش، وينغلق دفتر عشقك لـ"برعي" الذي يقتات من طاقتك؟! هل كنت تضحكين حينها حقًا؟!
ـ يا رب امنحه الصبي هذه المرة.
ماذا تفعلين والبوح انهزام والذات أطلال وعناكب والمسافات بلاد الله خلق الله؟!
تصرخين صرخة كأنها مكابدة التكوين الأول. الغضب الراسخ في أعماقك يستنسخ من صرختك الأولى انفجارات عديدة...
يدفع الطبيب باب الحجرة أمامه وقد جاشت مراجله. يقذف في وجهك كلمات لا تحددين ملامحها. ويرفض تخديرك كليًا..
قبيلة تترية من الانقباضات طويلة ومتقاربة تنهش الجزء السفلي من ظهرك...تزحف إلى الأمام. إلى الأمام كالصراخ الذي كاد أن يثقب طبلة أذنيه. يصفعك بكف من الغيظ. تفقد الدموع حنجرتها. تشعرين بأن ما يسمى كرامتك يفترش الطريق الزراعي. يتبخر تشنج عضلاتك أمام ثورته، فيشكل الجسد النيئ مدفعًا يقذف هذا الذي يتمناه الجميع ذكرًا. ينبثق كبد بكر من ألمك...شعره كؤوس الذهب وعيناه في نقاء نيل لا تبخ فيه المصانع روثها، جلده يكشف كل أسرار دمه..
وأخيرًا تنهيدة منك مرتاحة ووردية تعلق بين الروح والجسد!
يتلقفونني بالبسملة ولزوجة القبل، يفعصونني بمحبة بدائية تجعل من ساعة الميلاد الأولى عذابًا صغيرًا.
حين وضعوني في التجويف بين ذراعيك وجانب صدرك الأيمن، رأوا فناجين الدم الزاحف على الملاءة.
ليتك تصرخين الآن، يا أمي!


الأربعاء، 23 يوليو 2008

رجل وإمرأة

رجل وإمرأة








وقالوا: "كبرت وينبغي أن تنتخبي لنفسك أحدا"، فكرت قليلا، ولكن تجاعيد المرآة لم تغلق عيني. دون أن يشعروا وضعوا قوانين هذا الانتخابات، لكنني تعلمت أن أقول لا حينما ينبغي علىَّ ذلك، فاخترت الرجل الذي لم ينتخبني لأقول له يا سيدي، أو أدلك قدميه في الماء المملح وأجيد معرفة طريقي إلى معدته ثم يفرغ في جسدي طاقته.
اخترت رجلا انتخبني لأني جعلت قلبه يرقص طربًا حين ولد على كفى ولأنة جعل قلبي يغنى حين خفقانه الطروب، فقلت له يا سيدي ودلكت قدميه ودلكت تعب قدميه في الماء المملح فذاب تماما، وعرفت طريقًا إلى معدته، وسكب في جسدي طاقة الحياة، فصرنا نخلة تساقط رطبًا وحنانًا كلما نظرها الرائي.



قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!