استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

السبت، 16 أغسطس 2008

الفاعل لحمدي أبو جليل .. الرواية المسموعة

الفاعل لحمدي أبو جليل.. الرواية المسموعة

قرأتها لكم أسماء شهاب الدين

هذه الرواية ولا شك أفضل من الرواية السابقة للكاتب حمدي أبو جليل لصوص متقاعدون. لقد استطاع أبو جليل الاحتفاظ بقاريء متململ مثلي من الجلدة للجلدة. أضحكني حتى الثمالة، ودفعني للتأمل، وأثار لدي شجونا، ورفعت حاجبي دهشة.. كل هذا في رواية واحدة.
هي كما أظن رواية سيرة ذاتية. رواية لأنه كاتبها وأسماها كذلك وبالتأكيد لعب التخييل الروائي دورا لا يستهان به هنا، وسيرة ذاتية لأنه يحضر فيها باسمه وكتابته ومهنته وعائلته، وطبعا ضمير السرد الجبار أنا. قليلة هي الروايات التي تنتمي لهذا التصنيف، فهي تتطلب الكثير من الشجاعة الأدبية لكن الثمرة تكون ناضجة وحين نقضمها نستمتع بها كقراء لأننا نبدو وكأننا نشارك في عملية تلصص حميمة.. عملية تجسس (لذة أن نراهم عيانا بيانا، وهم لا يروننا)على مجموعة منتقاة من البني آدميين مسحورين بفكرة أن هذا حقيقي، أنه حدث فعلا.
الاقتباسان في مستهل الكتابة:
لقد استخدم أبو جليل اقتباسين: الأول لإبراهيم منصور يقول: البعض معه فكة، والبعض ليس معه فكة.. وهكذا الحياة. الثاني لمارجريت دورا: أعتقد أن ما حدث لي يحدث لكل إنسان آخر بدون أي اختلاف. هما عتبة النص بالنسبة لي. اعتبر الأول ركيكا في لغته وفي نوع الرمز(الفكة) الذي يعتمده من أجل تقديم الحكمة من خلاله، ويمكن أن يقوله الفواعلي، ويستشهد به في كلامه. والثاني راقيا ومتفلسفا ببساطة جمة (أدبي بامتياز). يعكس الاقتباسان حالة من الانفصامية تسود الرواية كلها كثيمة مهيمنة (الراقي في مقابل الوضيع. الهوية المتفردة التي تمنحها الكتابة في مقابل الأصل البدوي ذي النفخة الكاذبة والعنطزة الفارغة لو جاز التعبير. المنفتح في مقابل القَبَلِي. الوعي في مقابل الجهل. الأمل في الترقي في مقابل الاستكانة الاجتماعية أو التجمّد عند مرحلة معينة) على المضمون واللغة وتقنية الكتابة.
بطل الرواية/ السارد بضمير الأنا/ حمدي أبو جليل قدم شخصيته بشجاعة يحسد عليها وبإحكام شديد في سياقاتها الاجتماعية والثقافية، وقدم لنا عائلته بسخرية عبقرية ملونة بنوع عجيب من الحياد(إن قوما بهذا القدر من الغباء والكِبْر لا يصح معهم سوى أن يقهقه وهو ينتقدهم علهم يغفروا له في محاولة ممتازة للتمويه). أعتقد أن هذا الحياد يعكس مولد الوعي (الوعي بالذات/ بالاختلاف عن قومه/ منذ أول سطور الرواية. أبو جليل كان أمينا في تقديمه لشخصية البطل البدوي. العرب أو البدو أقلية. إنه يفكر ويتصرف بأسلوب فرد من الأقلية اختزل الوطن بالنسبة له في عزبة صحراوية بالقرب من الفيوم. متردد ومواقفه مائعة (في الحب وفي السياسة وفي التعليم) ولا ينطلق من أرضية انتماء صلبة للوطن الأم الذي يصطدم به بشدة في القاهرة وفي العواصم الإقليمية، غير الواثق في إمكانياته كما يقول في ص 11. دوما يشعر بالغربة وتبدو شبرا بالنسبة له كإيطاليا أرض الأحلام بالنسبة للشباب العاطل عن العمل أو كل المصريين الذين كرهوا البلد. إنه ليس فاعلا على الإطلاق. هو البطل الضد متوار خلف شخصيات الدكتور، وعولة، والمعلم مطر، وبكر وغيرهم.
مضمومات قصصية في عقد الرواية:
هذه هي التقنية المحيرة التي اعتمدها أبو جليل للحكي هنا. سماها الأديب الكبير خيري شلبي تكنيك الهرتكة يقصد به المزق الملمومة على عجل. إن كل فصل يكاد يكون قصة قصيرة منفصلة بذاتها لكنها متصلة بالسياق العام. مضافا إلى ذلك أنها لا تخضع لترتيب زمني متصاعد من الأقدم للأحدث بل كتبها أبو جليل كما عنّ له، وعلى القاريء أن يرتبها في عقله وهي مهمة ليست من الصعوبة بحال مع هذه الشخصيات / الكائنات المدهشة التي طرحها. لكن الحيرة مبعثها أن هذه التقنية مع هذا العالم غير مشبعة لأنها
أولا:اعتمدت تقديما ساخرا للأخبار تارة، او اقتصادا سرديا قد يلائم مقام القصة القصيرة تارة أخرى.
ثانيا: وكما يقال العينة بينة أي أننا أيقنا بثراء هذا العالم وبكثرة مافي جراب الحاوي، لذلك نطالب بالمزيد كقراء معتدين على حقه الأدبي في أن ينتقي لنا مايشاء!
وأستعير مقولة خيري شلبي الجميلة هنا: "أغلب ظني أن حمدي أبو جليل قد صرّ عالمه في منديل محلاوي وربطه حول رأسه ثم فرطه أمامنا كيفما اتفق إلا ان الفتافيت والمزق كانت طعاما شهيا أكلناه قرقشناه بلذة فائقة تفوق لذة الأكل على موائد الدسم."
يبقى سؤال بخصوص سيرة الوعي. لقد فرضت هذه التقنية هيمنة الوعي الآني على كل ما سبقها من أحداث. كنت أريد أن أعرف متى بدأت الصدمة المعرفية الأولي (لا أظنها في معهد أم حسن). متى علم أنه مختلف/ موهوب/ خارج القطيع؟ كيف انفعل ككاتب بأول كتاب أدبي قرأه، وكيف كابد مع اللغة، أقصد لغة الكتابة؟
جدلية اللغة:
لو جاء الحوار في هذه الرواية بغير العامية (سواء أكانت قاهرية أو بدوية) التي كتب بها لانضرب الصدق الفني في مقتل. أما باقي أشكال اللغة في هذه الرواية فقد طالته العشوائية في كثير من المواضع. شهدت الرواية في الربع الأول منها تضفيرا متوازنا ومتقنا بين الفصحى والعامية. ووجدنا حمدي أبو جليل يضع كلمات العامية بين أقواس مثل: "النومة" (وهي تصلح فصيحة)، " تباعا"، "ينضف"، "أشوّن"، "إيه وليه"، "المرمطة" وهكذا (مع العلم أن معظمها فصيح أصلا أو يمكن بسهولة إخضاعه لقوانين الفصحى) وقُبِلَت في سياقها كما الحوار مقبول في سياقه. بعد ذلك بدا وكأن الكاتب ماعاد يعير المسألة اهتماما، فاختلط الحابل بالنابل وشهدت الفصحى في كثير من مواضعها (رغم كونه قادرا على إخراج طاقات متميزة في الفصحى) أخطاء نحوية كثيرة وخاصة في نصب المفعول به، ودخلت العامية في مواضع كثيرة بلا مبرر في وسط سياقات فصيحة لا يضيرها شيئا لوأكمل أناقتها وجمالها بالبديل الفصيح. في صفحة 108 مثلا: "أحيانا كنت أحسبها له، مساحته لا تزيد عن ميتين(بدلا من مائتي) متر، ولن يحتاج أكثر من عشرة أنفار. تتحفر القواعد (بدلا من تُحفر)،وتتسلح، وتتصب (بدلا من تُصَب)، وتطلع العواميد (بدلا من الأعمدة)، وهما شهرين (بدلا من وهما شهران)...، وتلاقي (بدلا من تلقى) التلت(بدلا من الثلاث)... " والعامية تكتب كما تنطق، وينبغي أن يلتزم فيها بالمد بالألف حتى تفهم أيضا.
في الرواية ص 57:"وكانت الدنيا برد، تلج والله". تلج بالتاء. الأمثلة كثيرة وفي رأيي ربما تعكس عدم توفيق في محاولة لإنتاج رواية تسمع على الملأ / شفاهية. هل يكون الأمر مجرد سخرية من الفصحى، وهل هذا نوع بلدي من التشظي؟ بدا الأمر عشوائيا جدا ويشبه انتصار لغة الفواعلي على لغة الأديب، أندهش لما فعله أبو جليل في لغة روايته وخاصة عندما أنظر لبعض مواضع الفصحى في الرواية التي هي في منتهى الجمال. إقرأوا معي هذا الجزء:
"البيت أربع طوابق، زواياه من الحجر النحيت، بني تقريبا في بواكير القرن العشرين، وهيئته الراهنة لاتبشر بأي خير. مطر قَاوَلَ سكانه على مخاتلته، خطفه، تنكيسه أثناء بنائه في السر، البيت المتصدع بالنسبة له أشبه بعجوز قانع يستعجل نهايته، وجراحته تهدف لتمكينه من نعيم النهاية والحياة معا، شيء يشبه إخراج الميت من الحي وإخراج الحي من الميت، لا يقترب أبدا من أسلوب عمارته، وأحيانا يضيف إليها ما شاء من الطوابق، وفي نفس الوقت يطلق معاول الهدم". الرواية ص 142.
أعادت لي هذه الرواية ذكرى "الخبز الحافي" لمحمد شكري، كلتاهما رواية سيرة ذاتية، وتفضحان عوالم سفلية وحضيضية. كان محمد شكري في الزمن الذي كتب فيه سيرته لا يقرأ و لا يكتب أصلا أي أن أبو جليل متفوق عليه معرفيا بمراحل. فلنلق نظرة (كلنا من معي ومن ضد رأيي )على لغة شكري في الخبز الحافي، وعذرا لأني في هذا الموضع أحيل إلى رواية أخرى.




شخصيات بحاجة لبعض التأمل:
إيمان العظيمة التي فضت بكارته. مر عليها مرور أكرم الكرام. المرأة/ إمرأة الأديب/ الملهمة/ التجربة الاستثنائية/ صنو العقل والشعور غائبة تماما في مقابل سمانة رجل هنا ونهد هناك وهلم جرا. ربما كانت كل علاقات الحب بالنسبة لواقع الراوي مشوهة وغير مكتملة كما ظهرت في النص الروائي وكنت أتمنى أن يلعب التخييل دوره هنا ليقدم لنا شخصية ثرية أخرى.


أسماء شهاب الدين


هناك 8 تعليقات:

أسما عواد يقول...

أسماء شهاب الدين .. اسمك لا يمكن ان انساه
انا هنا لأشكرك على مرورك بمدونتي
وثانيا للتعرف عليك عن قرب
وثالثا لأقول لك أن قصة لك قرأتها منذ سنوات كانت سببا في كتابتي لقصة أحببتها جدا
عزيزتي لقد زرت مدونتي وسألتني ان كنت اسماء شفيق عواد ام لا
أنا بالفعل تلك التي تتساءلين عنها
ولو كان عليا ليكي فلوس يبقى موش انا
تحياتي

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

أسماء العزيزة
قراءة جيدة
حسك النقدي عال جدا
استمتعت بالقراءة
دمت جميلة
وأنتظر رؤيتك النقدية لرواية حامد
هي رواية جيدة جدا وتستحق التوقف أمامها طويلا
تحياتي
وعلنا نلتقي قريبا

سمير مصباح يقول...

الجميل فى الامر ان يكون لدينا من يشبهونك فى احترافية النقد فيعوضون النقص الشديد فى هذا المجال البالغ الاهمية والذى ربما يقوف اهمية فعل الكتابة نفسها ( من وجهة نظرى عل الاقل)
اتمنى لك التوفيق

سنتيمتر من الحنان يقول...

شكرا لكل من أجهد أصابعه وترك لنا من رائحته عطرا جميلا.
عما قريب تأتي قراءات أخرى

هويدا صالح / عشق البنات يقول...

يا أسماء
مفاجأة
لم أكن أعرف أن الرجل الشرير زوجك هو صديقنا طاهر
أرسلت لك السلام معه أمس
تقابلنا في الأتيليه
على فكرة أعطيناه رواية سعيد نوح ملاك الفرصة الأخيرة ...
طبعا أنا شخصيا أطالبك بقرائتها ... قبل طاهر

سنتيمتر من الحنان يقول...

العزيزة هويدا صالح:
وصلتني الرواية فعلا والغلاف جميل، ووضعتها على الكومودينو بجانبي.
أين رواياتك أنت؟ أنا أقدر الكتاب المطبوع جدا.
شكرا وإلى اللقاء

محمد عبد الله الهادي يقول...

أسماء
قراءة جيدة للفاعل
قرأتها باهتمام وأعجبني حسك النقدي
أتمنى أن تقرأي روايتي ليالي الرقص في الجزيرة الصادرة عن النشر العام بهيئة الكتاب وتجدي فيها ما يستحق الكتابة
مع وافر الاعتزاز
محمد عبد الله الهادي

سنتيمتر من الحنان يقول...

الأستاذ الكاتب الكبير محمد عبد الله الهادي:
سعدت بتعليقك للغاية، وبقدر ما أسعدني أحزنني توارى النقد الجيد في واقعنا الأدبي لأن النقاد منشغلون بتربيطاتهم ومغرقون في الشللية تاركين الأمر لغير المتخصصين، والقراء الذين أنتمي إليهم.
يسعدني بالتأكيد قراءة روايتك؛ وسوف أبحث عنهالكن حركتي في العموم قليلة ومحدودة، فلو تكرمت بتركها في مظروف باسمي في أتيليه القاهرة سيكون يالتأكيد لطفا منك.

قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!