استعارة من منعم الفقير:

أسدلتُ الستارة
أحكمتُ
إغلاق النافذة
أشعلتُ
شمعة
أعددت الطاولة
مرحبا
وداعيا إلى الحديث
نفسي

الاثنين، 2 فبراير 2009

قصة قصيرة نشرتها جريدة البديل

عينة من دم سلمى شريف


مفاصل الباب تنادي الزيت استجداء، وأنا كنت أتجاهل دوما ذلك النداء لسبب أجهله. ظلمة لم اعتدها في مثل هذا الوقت من اليوم، في الثامنة مساء: وقت العمل أو وقت الاستعداد للعمل، فسلمى مثل عمال ورديات المساء وأطباء الطواريء تكدح بالليل. سكون تام ورائحة قلق خبيث، وجسد سلمى شريف مُسَجّى بوضعية عشوائية على الأرض. لم تمنحني الأباجورة الوحيدة بالصالة ما يعينني على إدراك أكبر. اندفعت نحو زر الكهرباء وضغطته.
رسم أحمر الشفاه القاني خطوطا هوجاء حول شفتيها. جفونها مغمضة ومنتفخة قليلا. كان سروالها التحتي ملفوفا ومحبوكا حول رقبتها، وعلى الجزء العلوي من جسمها تي شيرت قطني أحمر، وبين نهديها ـ في الوسط تماما ـ فطيرة من براز ثقيل.. براز بني آدم. ساقاها متباعدتان والنصف السفلي من جسمها عار تماما ومسوّد. بعض الكدمات كانت أكثر اسودادا كما موزة نزعت عنها قشرتها فسرعان ما أفسدها الهواء. اقتربت منها ببطء، فزكمت أنفي رائحة البراز الكريهة. رفعت ساعدها بالطريقة التي اختزنها كل منا في ذاكرته من جراء مشاهدة الأفلام المصرية. عاد ساعدها إلى مكانه بعد أن شدته الجاذبية الأرضية إليها. كان قلبي غير مصدق ومتشبثا بتفاؤل حذر كأنها تمازحني بمقلب مُحْكَم. ليست هي؟! لست أنا؟! هذا مستبعد حتما. أتكون بردانة؟ جلست أمامها على الأريكة الوردية انتظر حركة أنمل من أناملها. طرقعة أصبع قدمها الصغير، أو تنهيدة. وضعت منديلا ورقيا على فتحتي أنفها، فلم يصعد به هواء زفيرها ولو مليمترا واحدا، ولم يمص منه شهيقها شيئا. مرت ساعة. لا بد أن هذه جثة. لابد أن هذا الوجه الأزرق المختنق بالسروال التحتي هو لسلمى شريف، ولا بد أني معذب منحوس أفقد كل من أتكيء عليهم دون سابق إنذار.
لقد تمخضت نوازع الليل وسوءات النهار، الرغبات المختبئة في سيناريوهات أحلامها، الرمزية الكامنة في قلقها الدائم كحيوان ضار لا يشبع يفتش عن فريسة ربما يتلذذ بصعوبة اقتناصها والتهام لحمها عن: ضحية.. موزة قشّرها مجرم ما، وأفسدها هواء ثقيل.
ـــــــ
لم أجرب يومًا أن يشاركني أحد صحن طعامي أو فراش نومي أو بعضا من ملابسي أو قبلات أمي وأحضانها. في نعيمي وحدي كنت هانئا بحنان أمي التي كرست كل خلية في جسدها من أجلي حتى فاجأتها السكتة القلبية، وفاجأتني أنا أيضًا هكذا دون سابق إنذار كارتفاع في ضغط الدم مثلا أو إصابة حديثة بمرض السكري أو أي شيء يعلن عن خلل ما في جسمها.
نهشتني وحدة قاسية عميقة بددت نومي وصحوي وبعثرت دماغي. أصبح الشارع ملاذي، ومقاعد الكورنيش الحجرية هي كل ما أتمناه لراحتي بعد تجوال طويل على غير هدى، وبلا هدف غير إخماد كل الصور الذهنية لنا معا. كل أوقات حياتها التي تمركزت حولي، كل ثانية أدنت فيها بالفضل لها. لم أستطع إلا أن أظل شاكرا لها في محرابها، وألا أنظر لامرأة سواها! لكني سرعان ما أيقنت ان الوحدة تقطّر الهم، وجلسة المرء مع نفسه قد تؤدي إلى إنفجار دماغه. بدأ الجوع يقرص بطني. كان عليّ أن أعود لعملي بعد أن استنفذ فنيّو التمريض من زملائي كل إجازاتي وكل الحجج المقنعة لمداراة غيابي. بعد أيام قلائل، وأثناء إحدى حملاتنا للتبرع بالدم رأيت سلمى شريف لأول مرة. كنا نقف بسيارتنا بالقرب من ميدان رمسيس. كان يجب أن يراها الجميع لأن مشيتها المتبخترة قليلا بدت شاذة في زخم الميدان. كانت ترتدي بلوزة من الشيفون السماوي على بودي أزرق وجيبة كحلي ضيقة وقصيرة، وصندل أسود بكعب أعلى كثيرا من أن ترتديه إمرأة تمشي على قدميها بالقرب ـ قريبا جدا أقصد ـ من ميدان رمسيس. برغم ذلك اللون الذي صبغت به شعرها القصير، وبدا غير ملائم تماما للون بشرتها القمحية، وتبرجها الذي بدا ملائما أكثرلليلة ساهرة، كان في مظهرها ما يبث رسائل عن الحنان! وفي عينيها نظرة أمومية تشع بالطيبة. قالت لزميلي إنها تريد التبرع بالدم؛ لكنها تود التأكد أولا من صحة تعقيم الأدوات المستخدمة في ذلك.
ـ هو القمر بيطلع بالنهار؟! من عينيّ.
قالها بلهجة مسرحية ممطوطة، كم تكون المجاملات كريهة أحيانا! ابتسمت بخفة من يسمع تلك العبارات مرارا. تطوّعتُ بزرع بعض الطمأنينة في دماغها وأخبرتها أن الأدوات كلها معقَّمة، وتُستهلك أيضا لمرة واحدة. بدا أنها لم تفهم أو لم تطئن بعد، فقلت وأنا أضغط حروف كلماتي:
ـ يعني حضرتك كل متبرع نستخدم له أدوات مخصوصة ومعقمة، وبعدين نتخلص منها هنا، ولما يجي غيره نفتح له أدوات جديدة وهكذا.
أومأت برأسها إيجابا، فشعرتُ بالفخر بينما كان الطبيبان الملازمان لنا منخرطين في نوبة ضحك وهما يتطلعان إليها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها البارزة أكثر مما ينبغي من سير صندلها. ضرب أحدهما كفا بكف، فشعرت بأنها مثل كل الناس ينتابها الخزي أحيانا، فتفسح له المجال بدون مقاومة. قالت لي:
ـ خير إن شاء الله.
عادوا للتهامس والضحك من جديد.
ـ الاسم لو سمحت حضرتك؟
ـ آه.. سلمى.. سلمى شريف.
كنت أعرف أن اسمها "عيرة" كالصبغة في شعرها، ورموشها السوداء الطويلة المرفوعة عاليا نحو الحاجبين، وبعدما انصرفت أخبرني زميلي أن منظر صدرها أيضا "عيرة" بواسطة نوع من حمالات الصدر ذات الرفوف كما يسميه هو. يعتقد أيضا أنها ربما قابلت في مقتبل عمرها منتجا سينمائيا منحها هذا الاسم، وسلبها بكارتها.
ينسحب دمها ببطء. أرى على وجهها علامات مخاض صغير، تنظر نحوي، فأشعر بأنها تسمح لي أن آخذ منها ما ليس لها، وما لم يكن لها يوما ولكنها إن سئلت عنه، فستتحمل مسئولية التفريط فيه من أجلي!
تسمّر وجهها عند هذه اللحظة مسبلة العينين مستكينة الملامح كمن يصلي قلبه قبل جسده. تقبل على الله هرولة وكأنها تحج حجة. الجسد منهك ومصفّى، والقلب عامر مطمئن. لم تصورت أن عملا صغيرا مثل هذا يمكن أن يقرّبها من الله بهذا الشكل، فقامت بتأديته بكل هذا الخشوع الذي لا يليق إلا بما نود أن نقدمه لله؟
عدلت كم بلوزتها، وانصرفت. ركضت خلفها حاملا كوبا خزفيا عليه شعار وزارة الصحة والسكان، وأخبرتها أنه هدية للمتبرعين بالدم. ابتسمت فقط، واستدارت. بادرتها:
ـ آنسة سلمى.. الحملة هنا لمدة أسبوع.
ابتسمتْ بخفة. كنت أعرف أن هذه الخفة مفتعلة وزائلة كطابع حسن رسمته على ذقنها بقلم الكحل الأسود قبل أن تخرج للعمل. لو لم أكن أنا، لتركت ابتسامتها في قلبي شيئا من خيبة الأمل. عندما احتضنت خمسمائة مللتر مكعب من دمها الدافيء بين يدي، أدركت أن الدماء ـ حتى الدماء ـ تبث لي رسائل منها: خذوا مني، فأنا على استعداد لأعطيكم بلا مقابل! ليس الدم مجرد بلازما وكرات دم حمراء وبيضاء. شعرت أني فككتُ الشفرة، وصوبتُ نحو هدف ما لأول مرة في حياتي. انتزعني صوت قهقهتهم العالية وجدلهم حولها من أفكاري: زميلي الذي لم يكن يعلم أن لي في هذا الصنف. الطبيبان الذان اندهشا لحرص فتاة ليل كما سمياها على ثواب التبرع بالدم، وخوفها من انتقال فيرس بي أو سي الكبدي إلى دمها! كيف لإمرأة تتلقى زبالة أجسام البشر، وانحرافاتهم الجنسية كل يوم أن يساورها قلق من سلامة تعقيم الأدوات؟!
الآن فقط يمكنني أن أجيب عنها. إنها تتعامل بنوع من القدرية مع إصابات العمل، أما غيرها من الإصابات فلا تقبلها مثلنا جميعا.
حضرت سلمى شريف مرة أخرى. بعد يومين تقريبا. تمشينا كثيرا لأنها كانت ترتدي حذاء مطاطيا هذه المرة، ولأنها رفضت أن نجلس في كوفي شوب. اشتريت لها ترمس وفول سوداني محمّص. لم تبد سعادتها بلقائنا؛ لكني كنت أعلم أنها ستأتي ثانية بيقين مثل ذلك الذي لا يتزعزع بأنه كلما غسلت يديك بعد اتساخهما بالقذارات، فإنهما ستعودان بيضاوين من غير سوء بعد غسلهما بالماء والصابون، وأنه لن يساورك بخصوصهما قرف، وستعيد استعمالهما مرارا وتكرار. كنت على يقين بأنها ستعود. عادت في آخر أيام الحملة، وعلمت أن ابتسامها الكثير الذي يذكرني بأمي هو كلامها نفسه، فلماذا أنتظر منها الكلمات؟.
بعد عدة لقاءات أخرى، أخذتني إلى شقتها بالمريوطية. تناولنا محشو ورق العنب الذي صنعته درية صديقتها. عندما أخذت أحكي لها عن أمي، نامت سلمى على أريكتها الوردية بسهولة وعمق.
لقد كانت سلمى شريف نافذة تسرسب لي صخب العالم الكبير نقطة نقطة، وكأني ابنها الصغير الذي ترضعه بشغف أم بكرية لبن السرسوب القيِّم من ثدييها نفس الثديين اللذين تأكل بهما، فأكتسب منها ما اكتسبته هي من معرفة بالحياة ومعاناة ورفض وصبر. نعم كنت ابنا ولم أكن زبونا. لقد تعلّمتْ من نعيمة أمها الروحية أن العلاقات المستديمة لا تثمر زواجا ولا فلوسا، وأنا لن أمنحهما لها. حتى الزبون إذا تعشّم أو "شكّك" مرة يضيع للأبد. علاقتنا كانت من نوع مختلف. اندهشت سلمى في البداية من إلتصاقي بها، وتعاطفي معها. حاولت أيضا في أوقات كثيرة أن تتخلص مني كما اعترفت لي فيما بعد. كانت تصيبني حالة قلق شديدة يتبعها صداع قاتل وقيء مستمر يجعلها تتراجع عن محاولاتها، ورغم أن حاجتنا للاحترام كانت مشتركة. كنت أخنقها بقلقي عليها وخوفي من فقدانها. حاجتي للثقة بالنفس التي لم تنفع القراءة في تنميتها أكثر مما هي عليه كانت هي من تستطيع علاجها بكلماتها المؤازرة. كنت أعلم أن الدنيا ستصبح صفرًا كبيرًا بدونها. بعدما تزوجت درية من سائق تاكسي في حادثة غير مسبوقة، صرت أعد لنا الطعام. كنت أرتب الشقة، وأهندم غرفة نومها تحديدا باهتمام أكبر، وأعطرها، وأغسل حمامها، وألمّع أحذيتها. أجمع الغسيل المتسخ وأقسمه إلى مجموعات حسب ألوانه وأقوم بغسله في يوم محدد كل أسبوع. استبقتني وكنت أحب أن تربت على ظهري بطيبة. في تلك الأيام التي تمتنع فيها عن مزاولة عملها، كانت تجلس على أريكتها الوردية أمام فيلم مصري قديم وكنت أجلس عند قدميها كهرة وديعة. عندما أعطيها رواية أعجبتني كانت دوما تردد: ماليش في القراية. بحب الأفلام القديمة بس. بتفكرني بيا زمان. حتى بتفكرني بنعيمة.
علمتها نعيمة قواعد مهنية ترجع إليها كل يوم من أيام حياتها العملية. وربما هي نفي القواعد التي هيئت لها علاقة مستديمة حتى وقت قريب برجل مثل عصمت. منها ألا تتبرج بفجاجة تلم عليها الذباب والذباب يمص ولا يدفع. الذباب أيضا هو أفراد الأمن المركزي والشرطة التي تلاحقهن عندما تشم رائحتهن. أن تكون سريعة ونحو الهدف. محددة أثناء التفاوض. مطيعة إلى حد كبير ولكن ليس بالمجان. كثير من التعري لن يفيد في البداية لأنها مثل موزة إذا ما نزعت قشرتها يفسدها الهواء ويعافها الأكّالة. تعلّمي وترقّي. نعيمة نفسها عرفت رجالا ذوي سطوة ونفوذ ومراكز مرموقة في المجتمع وأدركت أن الترقي ينجِّي ويحمي ويُشعر المرأة بالإنجاز! لم تقل لي أبدا لماذا تركت نعيمة هي وبدرية. كان فعلا ماضيا يجب أن نتركه في حاله.
اشترت بعض الأباجورات والوسائد، وقالت لي إن الشقة الآن صالحة لاستقبال الزبائن وأن هذا سيريحها ماديا ومعنويا. اضطررت لأن أستبدل كل نوباتجياتي الليلية مع أحد الزملاء مقابل مبلغ من المال من أجل الاطمئنان على سلامتها كل ليلة، وتيسير أمورها. كانت لا تحضر إلا من تثق بهم، وفي هذا تستعمل حواسها وبداهتها وخبرتها بالشارع والرجال لأنه من الخطورة أن تبني ثقة في نصف ساعة من التفاوض.
بعدها بأيام قلائل عرفت عصمت. لم يكن مختلفا عن الآخرين. رجل متزوج ولديه ولدان في سن المراهقة. لست أدري لم كان اهتمامها به يثير أكبر قدر من طاقة الغيرة لدي. لم يأتها لكمال فيها، وإنما لنقص فيه. كلهم يريدون ملكا ومملكة ومائة جارية في إمرأة واحدة تنصاع لرغباته الشخصية وقوانينه الديكتاتورية، وعليها أن تخلق المملكة وتمنح المُلْك له بالتزكية والمبايعة وتكون المائة جارية والرجل رجل في ذاته ومنذ مولده. لقد تناست دروس نعيمة ودفعها اهتمامه بها للاغترار والانسياق وراء رغبتها فيه. ربما لأرستقراطيته وشياكته كما قالت. ربما هو الحب بلا أسباب أو منطق. لست أدري. كنت أعرف أن تحت قناع الشياكة رجلا مثل كل الرجال يستأجر إمراة. الفارق الوحيد هو مدة عقد الإيجار فقط. هي تعلم أن حبيبة متفانية ومتخبطة في أمور العشق خير وأبقى منها، ومع ذلك كان الإعصار يجرفها إلى قاع سحيق. كان وسيما أيضا بشكل لافت للنظر، فكان مجرد تأبّطها ذراعه يمنحها قدرا لا يستهان به من الزهو والانتشاء . كما كان كريما يدفع أكثر مما نص عليه العقد. وكان يهديها أرقى مستحضرات التجميل والعطور التي يجمعها لها من سفراته إلى أوروبا كل حين. صارت أجمل؛ لكن عملها كان في تدهور. لم يطالبها أبدا بأن يقتصر الأمر عليه. لم تنتابه الغيرة على جسمها ووقتها مع رجال آخرين. لم يحبها أبدا. بالطبع لم أجرؤ على التصريح بهذا لها. أحاطت علاقتهما بأكبر قدر ممكن من السرية. لم أره سوى مرتين؛ لكني أدركت كم هو متغلغل في دمها. حقيقة صارت أجمل، وأكثر ألفةً وطيبةً معي أنا أيضا؛ لكن عملها كان ينهار. ذات مرة أرسلني أحدهم لشراء خبز وجبن رومي وبعض المخللات، وحين حضرت سمعت صوت استغاثاتها. حاولت فتح باب الغرفة. كان موصدا من الداخل. كانت تصرخ. أخذتُ أطرق الباب. لم يستجب لي وسمعتُ جلبة وراء الباب مباشرة. شد وجذب ودفع. أخذت أدفع الباب بجسمي كله مرة واثنتان وثلاثة. فتحه فجأة. كان الرجل عاريا، ومازال يمسك بحزام بنطلونه بيديه. استجمعت أصابعي في قبضة وهممت بتوجيهها نحو فكه. قالت من بين دموعها: ’سيبه‘. لملم الرجل نفسه وغادر. عرفت أنها كانت تضحك كلما لمسها. ضحكت كثيرا كثيرا جدا. صارت تضحك كلما هم بمجرد اللمس. كانت متعجبة للغاية مما يحدث لها، وزادت دهشتها من كوميديا الموقف، فسقطت من على السرير وهي مازالت تضحك. تعجّب الرجل وجلس على حافة السرير قليلا يمنحها بعض الوقت لتمالك أعصابها. كانت تحاول كتم ضحكاتها داخل فمها دون جدوى. أخذ الرجل يتأمل وجهه وجسمه في المرآة. لم تبد أبدا بالنسبة له إمرأة مجنونة. كان يجب أن تكف عن الضحك أو تجرب البكاء.
في مرة أخرى جاءت إلى البيت بقزم صغير يعمل كومبارس في الأفلام الكوميدي ومسرحيات سمير غانم. همست في أذني بأنه سيدفع كثيرا جدا. كان منظره مضحكا حقا برأسه الكبير وأعضائه القصيرة، وكان هو نفسه يشارك الناس ضحكهم عليه بأريحية. كان يحمل على كتفه شنطة هاندباج سوداء تخبط في ساقه كلما هرول أمامي. لم تشاركنا الضحكات وتمتمت وسمعتها: ’هو أنا يعني ح أنقي الشغل.‘ رفض بإصرار أن يفتح حقيبته أمامي قائلا لي: ’صدقني. أنا مُسْتَأنَس حتى بص!‘ ثم أخذ يؤذن كديك يحرس حظيرة الدجاج: ’كوكوكككككووووو‘. ضحكت، فضحك حتى انقلب على ظهره، وأخذ يركل الهواء بقدميه. تركتنا ودخلت إلى حجرتها، فاندفع وراءها.
انشغلتُ بتصفح الجرائد في البلكونة. مرت عليّ نصف ساعة، ثم تناهى إلى مسامعي صوت نهنهتها. فتحت الباب عليهما. لم يكن موصدا. كانت تجلس وراء البرافان محتمية بشرشف السرير، وكان هو في قمة التضاؤل والارتباك يرتدي على صدره بَافِتَّة كتلك التي تضعها الأمهات لأطفالهن الصغار كي ما تقي ملابسهم من الاتساخ. أخذ يلملم أشياءه ويضعها في حقيبته الهاندباج: رضاعة أطفال بها عصير برتقال. شخشيخة بأجراس وجلاجل. وبامبرز حجم كبير جدا من ذلك الذي يرتديه المسنون الذين فقدوا القدرة على التحكم في بولهم وبرازهم. كانت تبكي بمرارة وهو يرتدي حذاءه ويجاهد نفسه ليعود ويجبر خاطرها. قال لي عند الباب: ’موش عارف فيه إيه.‘ ثم تمتم: ’يا خسارة.‘ عندما تركها عصمت لأسباب لم تعلنها أبدا، أغلقت الحجرة على نفسها لأيام طوال. امتنعت عن الأكل والشرب والاستحمام. فقط كانت تدخن السجائر التي أدفع لها بعلبها من تحت عقب الباب. حين خرجت، كانت قد فقدت القدرة على الضحك والبكاء ومالايقل عن سبعة كيلو جرامات من وزنها.
لابد أني معذب منحوس أفقد كل من أتكيء عليهم دون سابق إنذار.
تزكم أنفي رائحة براز كريهة ورائحة موت. لا بد أن هذه جثة.
لابد أن هذه عملية افتراس.
لابد أن هذا الوجه الأزرق المختنق بالسروال التحتي لها، هذه الجثة المسودة كموزة عريانة هي لسلمى شريف.

هناك تعليق واحد:

التكعيبة للتنمية الفنية و الثقافية يقول...

سيشرفنا مشاركتك معنا باحدى ابداعاتك
___________________________________
مهرجان النشر الجماعى الاول

تقيم التكعيبة للتنمية الفنية و الثقافية مهرجان سنوي للنشر الجماعي للقصة و القصة القصيرة و الشعر بالعامية و الفصحى، سيكون موسمه الأول هو عام 2009.

و مفهوم النشر الجماعي هو مجموعة قصصية أو مجموعة شعرية لأكثر من مؤلف بين ضفتي كتاب واحد يجمع تلك الأعمال التي سيتم اختيارها عن طريق لجنة تحكيم في كل مجال على حدا، و يتم تحديد أعضاء اللجنة لكل دورة مهرجان.
و يصدر بتلك الأعمال مطبوع/ كتابين أحدهما للقصة و الآخر للشعر سيتم نشره في عامه الأول بالتعاون مع دار دَون، و يتم توزيعه و بيعه في الأسواق
لمساعدة الكتاب أصحاب العمل الواحد و كذا الكتاب الجدد الذين لم تتكون لديهم مجموعة قصصية أو شعرية بعد، في نشر أعمالهم المميزة بدون مقابل مادى

و ترسل الأعمال مرفق بها اسم الكاتب، عنوانه,رقم تليفونه,ايميله، وظيفته، سنه، سابقة نشره للعمل المقدم من عدمه او فوز العمل فى اى مسابقات ادبية
و ذلك في رسالة إلكترونية معنونه باسم المجال الذي يريد المشاركة في مسابقته مرفق بالرسالة العمل بصيغة وورد، و يفضل أن تكون تلك الأعمال مسجلة باسم أصحابها لكنه ليس شرطا لقبول العمل

ترسل الاعمال على ايميل
nashrgama3y@gmail.com

لمزيد من المعلومات حول المهرجان
http://eltak3eiba.blogspot.com
او
http://www.facebook.com/group.php?gid=94334335985#/group.php?gid=94334335985

مزيد من المعلومات حول التكعيبة
http://www.facebook.com/groups.php?ref=sb#/group.php?gid=29491316206

ملاحظات :
الاعمال المشاركة بالمهرجان هى فقط التى ترسل عبر الايميل او تسلم باليد
مسموح بالاشتراك بأكثر من عمل فى اى مجال
اخر موعد لتلقى الاعمال 15-7-2009

مع تمنياتنا للجميع بفرصة عادلة فى النشر
احمد حسن
0193953620
رقم محمول داخل جمهورية مصر العربية

قصة أذيعت في البي بي سي لندن منذ سنوات بعنوان تيك تاك

تيك تاك’ أخافك وأطلب منك أن تعاهدني على ألا تشتري بحبي ثمنًا قليلا. تركب الدهشة ملامحك، وتقول: ’آثمٌ من يهجر الماء والخضرة والوجه الحسن.‘ تروي نبتة غروري، فأقول: ’بل الماء والطين والعقل الحسن‘. تضحك كثيرًا، وتضع كفك على كفي التي توسدت الأرض... ريفنا مغبرٌ وقاسٍ؛ لكنه مثير. الشجرات الباسقات الخضر غامقات الاخضرار تنبئني بأسماء هؤلاء الذين جلسوا قبلنا في هذا المكان. ربما كان الوحيد الذي ما زال محتفظًا بشئٍ من ملامح خميرته الأولى، فهذه القرية باستثنائه أضحت شيئًا بهتت ملامح ميلاده، فلا هي من تجليات حسن فتحي، ولا هي مدينة المال والأزرار، ولا هي قريتنا التي هجرناها بما كان فيها: أكوام الطين المتجاورة التي تناثرت في شبابيكها الصغيرة أو لم تتناثر مصابيح الزيت، واحتضنتها الصحراوات الخضراء وكثير من الحنان. إننا قاهريان مقهوران حقًا. نبدو بما نرتديه من جينز وقميصين بلون الفلوروسين كصاروخين في سماء جدارية في أحد معابد الفراعنة. أشعر فجأة بضعطات رقيقة على بطن كفي تأتي من أسفل! تلطمني الدهشة. أحرك كفي تحت ثقل كفك. تسحبها وأنت غاضبٌ كطفل. أعود فأضعها تحت كفي على أرض الحقل، وأسالك: ’هل تشعر بما أشعر به؟‘ تتهمني بالجنون، وتصيح فيّ: ’إنه غالبًا نبض إبهامي الذي أزحته توًا بعيدًا عن كفك!‘ أنفي ذلك بشدة، فيصبح غضبك كرتاج بابٍ من الصلب يستعصي عليّ فتحه. تهب وواقفًا، ’هيا بنا‘. أمعن في ضغط كفي على كتل الطين البُنِّية. أشعر بومضات منتظمة، متتابعة ترتد على بطن كفي. أدعوك للتجربة. تقول: ’أُف!‘ وتستدير عائدًا. أركع على الأرض. ألصق أذني بكتلة طين كبيرة. يغزو الإيقاع المنتظم أذني تك تك تيك تاك...تيك تاك..تيك تاك!